"دولة فلسطين" انتفاضة سياسية على واقع مرفوض
بقلم: دافيد عيسى
تشاء الصدف ان يكون لبنان رئيساً لمجلس الأمن في الشهر الذي يتقدم فيه الفلسطينيون عبر هذا المجلس بطلب الاعتراف الدولي بدولتهم، "دولة فلسطين"، فيكون لبنان شاهداً على هذا الحدث التاريخي وتكون له مساهمة ولو متواضعة ورمزية في صنع هذا الحدث ومواكبته، ومشاركة الفلسطينيين فرحتهم وزهوهم بهذا " الحلم " الذي طالما راودهم وطمحوا إليه، وحتى لو لم يصبح واقعاً وانجازاً.
يحق للفلسطينيين ان يكون لهم دولة مستقلة وان يعيشوا مثل كل الناس والبشر في دولة تشعرهم بالسيادة والكرامة والأمان والرخاء. فقد طال أمد المعاناة وآن الاوان من اجل حل هذه القضية لا بل هذه المعضلة التاريخية التي يسمونها القضية الفلسطينية، وهذا لن يكون إلا على أساس قيام دولتين، دولة فلسطين ودولة اسرائيل، تتعايشان بسلام جنباً إلى جنب على أساس الاعتراف المتبادل.
لا يُلام الفلسطينيون إن هم قرروا التوجه إلى الأمم المتحدة ليقرعوا بابها ويسمعوا جوابها على طلب الاعتراف بدولتهم. فهم دُفعوا إلى هذه الخطوة دفعاً بعدما أوصدت الابواب في وجههم ووصلت المفاوضات إلى طريق مسدود ولم يعد أمامهم إلا لعب هذه الورقة حتى لو انطوى الأمر على هروب إلى الامام ومحاولة فرض أمر واقع. فمنذ وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الابيض لم يتم إحراز أي تقدم على المسار الفلسطيني رغم كل المحاولات التي بذلها والوعود التي قطعها، بسبب عناد وتعنت واجرام اسرائيل ومواصلتها سياسة الاستيطان والقهر والظلم ومراوغتها في إطلاق مفاوضات الوضع النهائي. وفي مواجهة هذه السياسة الاسرائيلية لم تُمارس ضغوط اميركية ودولية فعلية على حكومة نتنياهو لوقف الاستيطان وفتح طريق المفاوضات من جديد. لا بل ما حصل هو العكس فقد مورست الضغوط الاميركية والاوروبية على السلطة الفلسطينية لثنيها عن التوجه إلى الأمم المتحدة من دون إعطائها بدائل أو حوافز تقنعها بعدم اللجوء إلى هذه الخطوة، وبأن هناك طرقاً أخرى للوصول إلى الدولة الفلسطينية تمر عبر المفاوضات واتفاقات السلام الثنائية برعاية دولية.
وكان من الطبيعي في زمن الثورات العربية التي تعيد تكوين الانظمة والسياسات وتدخل المنطقة في عصر الحريات والديمقراطية، أن يكون الفلسطينيون جزءاً من " الربيع العربي " وأن تلفحهم رياح التحرر والتغيير. ومن ضمن هذا المناخ العربي جاء توجههم إلى الأمم المتحدة كانتفاضة سياسية على واقع مرفوض، هي بديل عن انتفاضة شعبية ضد الاحتلال الاسرائيلي باتت كل عناصرها وأسبابها متوافرة. وإذا كانت الانتفاضة الشعبية تكلف دماً وتضحيات، فإن الانتفاضة السياسية أو الدبلوماسية تنطوي على مخاطر ونتائج غير مضمونة في ظل أجواء أميركية غير جاهزة لاستقبال دولة فلسطين والاعتراف بها وغير محبذة لسياسة الامر الواقع التي لجأ إليها الفلسطينيون ويتسببون عبرها بالإخلال بقواعد اللعبة التي تقوم على مرتكزين ومبدأين : المفاوضات الثنائية المباشرة هي الطريق إلى الاتفاق والسلام والدولة الفلسطينية، والولايات المتحدة هي الدولة الراعية للمفاوضات والضامنة لنتائجها ولا مكان ولا دور لطرف ثالث حتى لو كانت الأمم المتحدة...
وليس مبالغة القول ان الفلسطينيين يخوضون معركة دبلوماسية في الأمم المتحدة يمكن ان تكون من أهم وأصعب المعارك التي خاضوها منذ بدء نضالهم وحتى اليوم. وقد ينجحون في محاولتهم وسعيهم وقد لا يوفقون، ولكن سيكون لهم " شرف المحاولة " وعندها لن يعود رئيس السلطة الفلسطينية (المنتهية ولايته) محمود عباس من نيويورك خالي الوفاض إذا لم يحصل على اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، بل انه سيحقق وضعاً متقدماً على طريق الدولة الكاملة العضوية، وعلى التزامات وتعهدات وتسهيلات دولية لم تكن موجودة ولم يسبق ان اعطيت للفلسطينيين...
ولأن المسألة على هذه الدرجة من الأهمية للفلسطينيين بالدرجة الأولى ولدول وشعوب المنطقة العربية بالدرجة الثانية ولأن حل القضية الفلسطينية التي تبقى القضية الاساسية لا بل القضية العربية المركزية سيساعد على احتواء التطرف والعنف والارهاب وسيجلب السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، فإن لبنان يجد نفسه معنياً بما يجري في نيويورك وكان من دواعي سروره واعتزازه ان يكون له دور عبر رئاسته لمجلس الأمن، وسيكون أول المرحبين بإعلان " دولة فلسطين " دولة مستقلة حرة ذات سيادة...
واذا كان الشيء بالشيء يذكر علينا القول ايضاً وبكل وضوح وصراحة انه اذا كان لبنان معنياً بقيام دولة فلسطين على أساس شروط ومقومات واضحة، فهذا لا يعني ابداً تجاهل امور سياسية اخرى اذ لا يكفي أن يكون الاعتراف الدولي بهذه الدولة على أساس حدود 1967 مع ترك مسائل الوضع النهائي عالقة ومن دون حل وأولها مسألة اللاجئين الفلسطينيين الذين يتواجدون في لبنان بأعداد كبيرة. فالاعتراف الدولي بدولة فلسطين يكون على أساس حدود العام 1967 وايضاً على أساس إقرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وحيث لا يمكن تصوّر حل للقضية الفلسطينية من دون حل مشكلة اللاجئين حلاً عادلاً وجذرياً لأنهم أصحاب حق ولأن قضيتهم هي قضية انسانية اجتماعية قبل أي شيء آخر.
وإذا كان حق العودة حقاً مطلقاً ولا جدال فيه فإن لبنان معني أكثر من اي بلد عربي بإقرار حق العودة لأنه لا يحتمل توطيناً فلسطينياً على أرضه بكل أشكاله المباشرة والمقنعة. فما فعله لبنان مع الفلسطينيين لم يفعله اي بلد عربي من احتضان ورعاية، وما لاقاه الفلسطينيون على ارضه لم يلاقوه على أرض عربية ثانية من حسن ضيافة وتساهل، ولكن لبنان لا يمكنه تحمل المزيد وان يتحول الفلسطينيون من لاجئين موقتين إلى مقيمين دائمين مندمجين في المجتمع اللبناني. فلا إمكانات لبنان وموارده الطبيعية والمادية الضعيفة، ولا مساحته الضيقة، ولا خصوصيته وتوازناته الدقيقة الطائفية والمجتمعية تسمح بالتوطين، ذلك أن أي إخلال بالتوازنات الداخلية، لا سيما الديموغرافية والعددية، سيكون بمثابة إخلال بقواعد ومبادىء العيش المشترك والوحدة الوطنية.
ومع ان اللبنانيين أجمعوا على رفض التوطين في مقدمة دستورهم، فإن ذلك لا يكفي، لأن أي تساهل وتراخ سيؤدي إلى تمرير وتكريس التوطين وجعله أمراً واقعاً، وعلى لبنان، رئيساً وحكومة وشعباً ومسؤولين وقيادات وفعاليات سياسية وروحية، التحرك في كل الاتجاهات لإثارة هذا الموضوع وتبيان مخاطر وأضرار توطين الفلسطينيين على أرضه والتداعيات الناجمة عن عدم إقرار حق العودة. ويشّكل طرح موضوع الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة مناسبة لإثارة هذه المسألة مع المحافل الدولية بأعتبار أن إقرار حق العودة هو شرط اساسي من شروط السلام العادل والشامل والدائم، وإيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية.
في العام 2006، التقت القيادات اللبنانية على طاولة الحوار الوطني وأتخذت أولى القرارات بإغلاق قواعد المنظمات الفلسطينية خارج المخيمات، ولكن هذا القرار لم يجد طريقه إلى التنفيذ وبقي حبراً على ورق... وفي العام 2011 تتوافر فرصة سانحة للبنان كي يطرح قضية اللاجئين بكل أبعادها ويحصل على اعتراف دولي بهذه القضية وعلى إقرار دولي لحق عودتهم إلى ارضهم. فلا تضيعوا أيها السياسيون هذه الفرصة بخلافاتكم الداخلية والشخصية التافهة حتى لا يصبح مصير الدستور مثل مصير الحوار، وحتى لا يبقى النص الدستوري ضد التوطين حبراً على ورق، وبعدها لا يعود ينفع الندم...
المصدر: ليبانون فايلز