دير ياسين.. ضحية لم تستلم
مقاومة لم نرغب بسماعها بسبب اللطم المجزرة
بقلم: ياسر علي
"إذا اكتسبت دير ياسين وحدها بين قرى فلسطين، هذه الرمزية "كضحية"
- على غرار ما يحدث كثيراً في الحروب والثورات.. فقد حان الوقت لتكتسب دير ياسين أيضاً
رمزيتها عن جدارة وحق "كمقاومة بطلة"، ذلك بأن أهاليها، على الرغم من عنصر
المفاجأة وعدم وصول نجدات إليهم، قاوموا بإمكاناتهم المحدودة جداً.."، وليد الخالدي
"دير ياسين".
لم تدخل قرية دير ياسين التاريخ قبل المذبحة الوحشية التي شهدتها، ولم يبقَ
أهلُها فيها بعد النكبة، مفارقةٌ عجيبة أن تدمَّر وتفرَّغ القرية في يوم دخولها التاريخ!!
كنت من أكثر الناس اعتقاداً وظلماً لأهالي قرية دير ياسين، وذلك يوم أن أدرت
ندوة حول شريطين مرئيين للمخرج إياد الداوود في مسرح المدينة ببيروت، الفيلم الأول
كان "الوجع" الذي يتناول مجزرة دير ياسين، والفيلم الثاني "جنين"
الذي تحدث عن مجزرة ومقاومة مخيم جنين..
افتتحت الندوة يومها بفكرة أساسية تتلخص في أن دير ياسين (كحدث، وليس كقرية)
كانت سبباً غير مباشر في الخوف والهزيمة والرحيل إلى خارج فلسطين، فيما كانت جنين
(كصمود، وليس كمجزرة) سبباً في الصمود وعدم الرحيل، وإثبات أن المخيم وإرادة الصمود
قد تقلب الموازين (على الأقل المعنوية) في وجه القوة العاتية.
بكلمة، يجهل الكثيرون، وكنت منهم، أن لدير ياسين صورة مقاومة مشرفة، تمثلت في
القتال حتى نفاد الذخيرة، ورفض الاستسلام حتى تفجير البيوت على المقاتلين (كما كان
الحال في جنين، مع البلدوزر دي9، التي هدمت البيوت على ساكنيها)..
لماذا دير ياسين؟
لم تكن مجزرة دير ياسين هي الأولى من سلسلة المجازر التي ارتكبتها العصابات
الصهيونية، فقد سبقتها إلى ذلك جرائم عديدة ومجازر وحشية أكبر، إلا أن هذه المجزرة
تميزت بأن القرية قريبة من العاصمة القدس، ودخلها مندوبو الصليب الأحمر ونقلوا شهاداتهم
على العالم، قبل إخفاء معالم الجريمة، وقد نقل المعتدون في مساء ذلك اليوم (الجمعة
9/4/1948) 150 أسيراً من الشيوخ والأطفال والنساء في شاحنات وطافوا بهم في "موكب
نصر" في الأحياء اليهودية ثم ألقوا بهم على الحدود مع العرب. كما أن قادة المنظمتين
عقدوا مؤتمراً صحافياً دعوا إليه ممثلي الصحف والإذاعات الأمريكية وتباهوا بنصرهم
"العسكري". وقد ظهر الإحراج على قادة العدو، واضطروا إلى تكذيب اشتراك قواتهم
في الهجوم..
غير أن البلماح والهاغاناه دمروا مئات القرى دون أن يعلنوا ذلك أو يفخروا به،
وكانوا يفهمون اللعبة الإعلامية وشبكة العلاقات العامة وقنوات الضخ للرأي العام..
ولهذه الأسباب باتت مجزرة دير ياسين رمزاً مكثّفاً لجريمة النكبة، وباتت تحمل
رمز "ضحية" النكبة الأولى، كونها المجزرة الأكبر. غير أن الحقيقة ليست كذلك،
فدير ياسين لم تكن المجزرة الأكبر، (سقط في الدوايمة 580 شهيداً)، لكنها كانت المجزرة
الأعلى صوتاً وضجيجاً، لأن من ارتكبها كان يرغب بالإعلان عنها لأسباب شعبية داخلية،
وبثّ الهلع في نفوس العرب الباقين في قراهم، وقد حدث ذلك..
الذخيرة
رغم ما كان بين مختار دير ياسين ومستعمرة جفعات شاؤول من اتفاق عدم اعتداء،
إلا أن أهالي دير ياسين لم يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه المعارك المصيرية التي كانت تحدث
في أنحاء فلسطين، وأحس وجهاء القرية بالخطر يقترب من منطقتهم فقرروا تشكيل لجنة طوارئ
في القرية من سبعة أشخاص يمثلون حمائلها الثلاث، وقرروا الاعتماد على النفس، وتنظيم
الدفاع عن القرية (مع عدم التحرش بالعدو سحباً للذرائع)، وشملت تدابير الدفاع إرسال
وفد إلى مصر لشراء السلاح من الصحراء الغربية من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وتدريب
الشبان على استخدام السلاح، وإقامة الاستحكامات في المواقع الاستراتيجية في القرية،
ونظام حراسة ليلية وتفتيش على الحراس.
وكان من أهم قرارات اللجنة حفر خندق يقطع الطريق الرئيسية إلى مستعمرة جفعات
شاؤول لعرقلة تقدم المصفحات اليهودية، وكان عرض الخندق مترين وعمقه كذلك، وتم تمويه
الخندق بالأغصان وتم تغطية الأغصان بطبقة ترابية.. وقام المشاركون في ثورة
1936-1939 بتدريب الشباب على استعمال السلاح.
وذهب الوفد إلى مصر، حاملاً معه 1000 جنيه فلسطيني (استرليني)، واتصل بالسماسرة
واشترى عشر بنادق مع ذخيرتها، لكن الاستخبارات المصرية اعتقلته وصادرت السلاح والذخيرة.
ثم أعيد الإفراج عنه ووصل إلى دير ياسين بطريقة ماراثونية (عبر الدواب)، ووصل سعر البندقية
يومها إلى 55 جنيه (وهو ما يعادل راتب شهر لكبار موظفي حكومة الانتداب)، والمخزن المؤلف
من خمس رصاصات بلغ 50 قرشاً (وهو ما يعادل أجرة يوم كامل للعامل العادي)، وقد تم جمع
معظم المبلغ من تبرعات نساء القرية بالحليّ.
المقاومة
قبل هجوم المجزرة، صد حراس القرية أكثر من هجوم فردي. وشارك اثنا عشر رجلاً
من القرية بمعركة القسطل، وجُرح أربعة منهم وهم يساعدون في حمل جثمان عبد القادر ووضعه
في المصفحة التي حملته إلى القدس.
وشهدت أطراف القرية معارك عنيفة تنقلت من بيت لبيت، ودافع أهل القرية دفاعاً
مشهوداً، وبدأ المهاجمون من عصابات الأرغون وشتيرن يتكبدون الخسائر الجسيمة، ويتراجعون..
وقد قتل عدد كبير من المهاجمين، بينهم قائد الحملة الملقّب "يفتاح"، وتراجع
المهاجمون أكثر من مرة عن أهدافهم بسبب المقاومة العنيفة ببنادق شخصية لدى أصحاب البيوت..
بيد أن المعركة كانت قد تحولت لمصلحة المهاجمين منذ تدخُّل البلماح (القوة الضاربة
للهاغاناه)، وتزامن ذلك مع شحّ متزايد في الذخيرة لدى المدافعين بلغ حدّ النفاد.
ويروي الإرهابي مناحيم بيغن في حديثه عن المذبحة أن العرب دافعوا عن بيوتهم
ونسائهم وأطفالهم بقوة، فكان القتال يدور من منزل إلى منزل، وكلما احتل اليهود منزلاً
فجّروه على من فيه بالمتفجرات القوية (ت.ن.ت) التي أحضروها لهذا الغرض.
وفي كتاب وليد الخالدي عن مجزرة دير ياسين روايات مذهلة عن مقاومة بعض رجال
القرية (ص53-54)، وأبرزهم علي قاسم، وحسن رضوان الذي خاض معركة على جبهة واحدة مع شراذم
المهاجمين دامت المعركة من الشروق حتى الساعة الواحدة والنصف ظهراً. دون أن يتراجع
شبراً واحداً. وانضم إليه عند السابعة جمعة زهران ثم خليل سمّور وثم عبد المجيد سمّور
أخوه عبد الحميد.. وتستمر المعركة طوال النهار ويصدون ويتم صدّ المهاجمين أكثر من مرة
حتى ادخلوا اليأس إلى قلوب المهاجمين.
عدد القتلى
حول عدد القتلى شاع أنهم بلغوا 250 عربياً، منهم 25 امرأة حبلى بقرت بطونهنّ
وهن على قيد الحياة برؤوس الحراب، و52 طفلاً قطعت أوصالهم أمام أمهاتهم وستون امرأة
وفتاة أخرى.
رغم اتفاق كل المصادر الشفوية والدولية والصهيونية وحتى العربية على أن عدد
شهداء دير ياسين هم 254، إلا أن الإحصاء الميداني الذي توجه إلى الناجين من وجهاء القرية
عدّ حوالي مائة قتيل و15 جريحاً.
والحقيقة أن مصدر الرقم 254 هو موردخاي رعنان (الذي تحدث في المؤتمر الصحفي)،
الذي قال لاحقاً أنه تقصّد تضخيم الرقم لإلقاء الرعب في قلوب العرب، وقد نجح في ذلك.
كفى نواحاً
يحق لدير ياسين أن تخرج من قالب المجزرة السهلة إلى فضاء البطولة والمقاومة،
ونقول كفى نواحاً على المجزرة، لأنها تستحق الاعتزاز أيضاً، وقد بكيناها 58 عاماً،
دون أن نخلّد ذكرى الأبطال الذين دافعوا عنها..
نقول أن صورة دير ياسين يجب أن تتغير في وجداننا وفهمنا، ونختصر ما أسلفناه
بثلاثة أسباب:
دير ياسين تحتفظ أيضاً في تفاصيلها بصورة مشرقة للمقاومة، يجب أن نظهرها..
عدد شهداء دير ياسين لم يكن الأكبر في العام 1948، فقد سبقتها في ذلك مجزرتا
الدوايمة والطنطورة.
لم تكن دير ياسين المجزرة الوحيدة في النكبة، وتركيزنا عليها وحدها سيظهر أنها
مجزرة واحدة في حرب طويلة ستشكل استثناء وشواذاً في المعارك، وبالتالي لا تستحق أن
تُذكر كونها لم تكن ضمن سياسة ممنهجة.
لا نبرئ اليد الصهيونية من المجزرة وعقلية التطهير العرقي والمفاهيم العنصرية
وخطط الترحيل القسري، فالمجزرة حصلت مع سبق الإصرار والتخطيط.
ولكننا نظلم دير ياسين إذا لم نضئ على مقاومتها ونسجنها في زنزانة الضحية وندفنها
في قبر المجزرة، وعلى مثل شهداء دير ياسين تبكي العيون والقلوب، فقد مات رجالها واقفين،
ولم يذبحوا كالنعاج.
المصدر: صحيفة السفير نيسان (ابريل) 2010