ذاكرة الدم في صبرا وشاتيلا: عن ابو سلمان
الذي لم يخذله حماره
بقلم: محمود كلّم - بودابست
من الصعب على الذاكرة بعد مرور أكثر من
ربع قرن على المجزرة، إسترجاع أدق التفاصيل التي تبدو ضرورية لإعادة تقييم مجريات الأحداث،
والخروج مع شيء من التوثيق بشهادة على تلك المرحلة التي تبدو عصيّة على النسيان. ومما
يزيد في صعوبة لملمة جزئيات التفاصيل يرجع في أحد أهمّ أسبابه إلى غياب شخوص الحدث
نفسه، فقد غيّب الموت الكثيرين منهم، وحالف الحظّ البعض فاحتوته المنافي البعيدة ودول
اللجوء.
لذا يظلّ التعكز على الذاكرة التي أجهدتها
الأحداث وألمّت بها المحن أمرًا مفروغًا منه في محاولة التصدّي لاستعراض ما حدث ظهر
يوم الجمعة السابع عشر من أيلول سبتمبر 1982. كان الجو ينفث سمومًا ودخانًا رماديًا،
وكانت رائحة الموت تغطّي ساحة المخيم، لكن التكهّن بما سيحصل لم يراود مخيلة أحد، ولم
يقطع قدسية الصمت في شوارع المخيم سوى موسيقى جنازير دباباتهم التي كان ينبعث منها
لحن الموت، وصوت جارةٍ لنا، تصرخ بأعلى صوتها مجزرة.. مجزرة... مجزرة.
كانت الجارة شبه عارية، والدماء تسيل من
جسدها. كانت تطلب منّا الذهاب إلى تمثال "أبو حسن سلامة" عند تقاطع الرّحاب
ومفرق صبرا. كان الناس ينظرون إليها باستغراب، كانت المرأة في وضع مأساوي جدًا، يوحي
للرائي بأنها ربما فقدت عقلها!
لا أدري بالضبط كيف وصلنا إلى تمثال أبو
حسن سلامة، في وقت بدأ الجنود الصهاينة التدقيق في هوياتنا، طلبوا منا نحن الفلسطينيين
والسوريين أن نقف إلى جهة الشرق من التمثال وإلى اللبنانيين الوقوف إلى جهة الغرب منه،
وقفتُ مع اللبنانيين دون أن يتنبه الجند الصهاينة إلى ذلك. كان وجه الأرض مغطى بحرامات
زرقاء رُصفت عليها بلطات وسكاكين. مرّت ساعات ونحن نقف في الطابور، كانت الحياة تختلط
بالموت على قارعة الطريق، والصمت سيد الموقف، وأن مناخًا من مناخات القبور كان قد ألقى
بظلاله على الجميع بما فيه المكان، يوحي بأنّ شيئًا ما سوف يحدث.
كان جنود وضبّاط صهاينة قد تخندقوا بالقرب
منّا فوق مدارس المهدي- قيد الإنشاء وقتذاك - لم تكن مسافة المئة متر تلك كافية في
حسابات العسكر كي تقينا نيرانهم. نسيتُ نفسي من أكون ولماذا أنا في هذا المكان، هذا
ما قاله لي يوسف علي ناصيف الناجي من مجزرة صبرا وشاتيلا، لم يبق في ذاكرتي عالقًاً
من أحداث ذلك اليوم سوى صورة الشيخ المسن فوق حماره بوريد مقطوع شبه ميت ودم نازف،
يطلّ على المكان فجأةً من جهة حي عرسان، يرافقه جنود صهاينة يملؤهم الزهو وتغطي ضحكاتهم
الهستيرية مساحة المكان!
مروا من جانبنا واستمروا في سيرهم إلى جهة
بئر حسن، عرفتُ الرجل للوهلة الأولى وتابعته بنظري حتى اختفى في إحدى الأزقة بصحبة
الجنود الصهاينة، كان الرجل هو حسين محمود زينة (أبو سلمان) المولود في بلدة الجش-
فلسطين عام 1911. هذا الشيخ العاشق لأرضه وتراب وطنه خذله ثوّار العلب الليلية وتّجار
الكلام... إلا أنّ حماره لم يخذله وظلّ وفيًا له، حمله مسافة الطريق ليوصله إلى بيته
في مخيم برج البراجنة..
بعد ثلاثة شهور من وقوع المجزرة رحل أبو
سلمان شاهد عصره في ذلك اليوم الحزين بعد أن سجّل بدمه حضوره على صفحات التاريخ الإنساني.
رحل قبل أن يسمع تصريحات بعض المارقين على القضية الفلسطينية، الذين لم يخلصوا لدم
الشهداء، ولعذابات الأسرى والجرحى ولأمهات الثكالى.
رحل أبو سلمان بعد أن أعطى الأميركيين ضمانات
خطية بعدم دخول القوات الصهيونية إلى بيروت الغربية وبحماية المدنيين في المخيمات.
رحل أبو سلمان ولا يزال قبره بلا شاهد،
ينتظر عدالة السماء لتثأر له ولجميع الضحايا في مذبحة صبرا وشاتيلا.
المصدر: شبكة العودة