ذكرى "أوسلو"... الدروس والعبر
جيمس زغبي
مرت
عشرون سنة على توقيع عرفات ورابين على اتفاقيات أوسلو بواشنطن في 13 سبتمبر 1993،
وفي ذلك التاريخ طغت أجواء من البهجة والحبور على حديقة البيت الأبيض التي شهدت
التوقيع، وعندما مد عرفات ورابين يديهما للمصافحة عانق العرب واليهود الأمريكيون
بعضهم بعضاً مهنئين ومتفائلين بالمستقبل بعد سنوات من الصراع امتد إلى المجال
العام بالولايات المتحدة.
وسرعان
ما عمت الاحتفالات أيضاً الأراضي المحتلة و"إسرائيل" على حد سواء مع
تعبير الطرفين معاً على تفاؤلهم وثقتهم بفرص السلام الواعدة. وهذا التفاؤل كان
واضحاً في البرنامج التلفزيوني الذي كنت أشرف عليه، عند كبير المفاوضين
الفلسطينيين، نبيل شعث، لدى سؤالي حول فرص نجاح اتفاقات أوسلو وخطر نسفها من قبل
أحد "الانتحاريين"، رد قائلا "إذا صمدت الاتفاقية، وأعتقد أنها
ستفعل، سيكون مزارعونا بعد سنتين من الآن منشغلين برعاية الأرض التي حررت، وسيكون
الشباب منهمكاً في العمل الذي استحدث لهم، وسنكون جميعاً منكبين على إقامة البنية
التحتية للدولة الجديدة. وإذا ما قام أحدهم في خضم كل هذا بعمل من أعمال العنف،
سينقلب الناس ضده، وسيقولون له: كفى، لأنه يهدد كل ما تم بناؤه".
وبالمثل
كان الأمل كبيراً لدى الإسرائيليين، حيث قال وزير الخارجية وقتها، يوسي بيلين
"لم تعد إسرائيل هي نفسها، نحن اليوم على استعداد لتغيير العديد من أفكارنا
والتكيف مع الواقع الجديد". ولكن على رغم جو التفاؤل، لم يكن الجميع راضياً
عن أوسلو، فقد اتهم بعض الإسرائيليين رابين بالتسليم للإرهاب وإضفاء الشرعية على
الفلسطينيين، فيما رد الفلسطينيون المعارضون بأن اتفاقيات أوسلو تنطوي على عدد من
الثغرات التي ستمدد فقط الاحتلال الإسرائيلي. وبالطبع لم تكن اتفاقيات أوسلو كاملة
الأوصاف، بل اشتملت على قدر من الغموض والالتباس، وظلت حلول الخلافات الجوهرية
مؤجلة ومُرحلة إلى حين بسبب العجز عن التوافق حولها. كما أن القضايا الأساسية مثل
القدس والحدود والمستوطنات واللاجئين والأمن ظلت بعيدة عن التوافق، ولم يتم الخوض
فيها إلى أن تنتهي الفترة الانتقالية التي حددت في خمس سنوات.
ولكن
حتى في ظل هذه العيوب والالتباسات، كان أهم ما في الاتفاقيات هو الخطوات غير المسبوقة
التي اتخذتها "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية تجاه بعضهما بعضاً
والمتمثلة في كسر بعض المحظورات وتبديد الأساطير. ولعل أول ما جاءت به الاتفاقيات
هو الاعتراف الرسمي لكل طرف بالآخر، فعلى رغم أن الفلسطينيين التزموا منذ عام 1988
بحل الدولتين، إلا أن التوقيع على اتفاق رسمي مع الإسرائيليين يعترف بشرعية
واستقلال الدولة العبرية شكل اختراقاً حقيقياً. والأمر نفسه ينطبق على
"إسرائيل" التي كانت حتى تلك اللحظة ترفض الاعتراف بالفلسطينيين، فقد
كان الساسة الإسرائيليون يصرون ليس فقط على رفض الاعتراف بمنظمة التحرير
الفلسطينية، بل يضغطون أيضاً على الآخرين لرفض التعامل معها، وهو ما كان قد عبر
عنه رابين نفسه خلال حديثه في إحدى المناسبات بواشنطن في عام 1985، قائلًا
"كل من يوافق على الحديث إلى الفلسطينيين يعني أنه يوافق من حيث المبدأ على
دولة فلسطينية، وهو أمر غير مقبول".
ويضاف
إلى ذلك أن الاتفاق أزاح تلك الأسطورة التي تقول إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
غير قابل للحل، حيث جاءت الاتفاقيات لتبرهن على وجود استعداد لدى الطرفين للتوصل
إلى تسوية. ولا ننسى أيضاً أنه بموجب اتفاقيات أوسلو انتقلت السلطة الفلسطينية،
حتى في ظل غياب الدولة، إلى داخل الأراضي المحتلة، وعلى رغم استمرار واقع الاحتلال
اليومي للأراضي فقد شكل الانسحاب الجزئي لـ"إسرائيل" من بعض المناطق
والبلدات الفلسطينية فرصة لتجريب الحرية. هذا وقد نصت الاتفاقيات على انتشار محدود
للقوات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة على أن تقود إلى مرحلة انتقالية من خمس
سنوات ستستمر خلالها المفاوضات. ولم تكن قضايا الوضع النهائي المرتبطة بالحدود
والقدس والأمن مطروحة للنقاش إلا بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وكان المنطق وراء
ذلك أنه على امتداد الخمس سنوات سيكون الطرفان قد أقاما علاقات وبنيا الثقة
المتبادلة التي تتيح لهما معالجة القضايا الجوهرية.
ولكن
ولكي تنجح عملية السلام كان لابد من تحقق عدد من الأمور، أولها تغير دور الولايات
المتحدة من مجرد ملاحظ مع ميل واضح لدعم طرف دون آخر إلى مشارك حقيقي ومتوازن.
فكما نص على ذلك اتفاق أوسلو عجز الطرفان معاً على التوصل إلى حل، ما حتم وجود قوة
ثالثة تقدم الدعم للجانبين معاً.
ثانياً
كان على الفلسطينيين والإسرائيليين التحرك سريعاً من خلال جدول زمني واضح لسد
الطريق على المخربين سواء "الانتحاريين"، أو المستوطنين، أو حتى
الاستخدام المبالغ فيه للقوة من قبل "إسرائيل"، حيث أدى العنف المتبادل
إلى ضرب ثقة الرأي العام في مجمل عملية السلام.
ثالثاً
كان على الاتفاقيات أن تهتم بالنتائج الملموسة التي يستشعرها الشعبان، والحال أن
ما حصل هو نمو سريع للاقتصاد الإسرائيلي، فيما تقلص النمو الفلسطيني، وبسبب
التصرفات الإسرائيلية الرعناء خلال السنتين اللتين أعقبتا التوقيع على اتفاقيات
أوسلو تزايدت وتيرة الاستيطان على نحو غير مسبوق. وتضاعفت معدلات البطالة لدى
الفلسطينيين مع تراجع الدخل وإغلاق عدد من الشركات والمصانع أبوابها بسبب التضييق
الإسرائيلي على عملية التصدير والاستيراد.
وفي
الأخير كانت هذه العيوب والتصرفات قاتلة لتنتهي بنسف عملية السلام وتقويضها، حيث
تزايد اليوم عدد المستوطنين في الضفة الغربية بثلاث مرات، وما زال الاقتصاد
الفلسطيني رهيناً للسلوك الإسرائيلي والمساعدات الدولية، بالإضافة إلى سقوط الآلاف
من الضحايا بسبب الاستخدام المفرط للقوة من قبل "إسرائيل". ولكن مع ذلك
وبعد فترة ممتدة من السبات وانسداد الأفق عاد الطرفان لاستئناف المفاوضات من جديد،
وبالطبع لا يستطيع الشخص منا سوى أن يأمل في أن يكون الجانبان قد تعلما من أخطاء
تجربة أوسلو كثيراً من الدروس والعِبر.
الاتحاد،
ابوظبي، 15/9/2013