القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

ذكرى النكبة وعمليّة السلام

ذكرى النكبة وعمليّة السلام

سلطان العامر

إن تذكر النكبة يجرّد عملية السلام من أي مشروعية، ولا يمكن التفكير بالسلام إلا بشرط نسيان النكبة، لأن عملية السلام كلها قائمة على أن المشكلة تبدأ من عام 1967، وأن الحل هو بالرجوع إلى وضع ما قبل 1967. لهذا يكون تذكر النكبة - لمجرد حضورها في الذاكرة - تدميراً لهذا المنطق الذي تقوم عليه عملية السلام، إلا أننا اليوم، أي بعد مرور أكثر من عقدين من الزمان على مرور عملية السلام، نعلم جيداً أنها فقدت مشروعيتها، من دون الحاجة حتى إلى تذكر النكبة.

ففي عام 2008 كتب دكتور العلوم السياسية الأميركي ناثان براون مقالة بعنوان: «غروب فكرة حل الدولتين؟» ذكر فيها كيف أن هذا الحل بات صعب المنال، لأسباب عدة، منها: ما يتعلق ببناء المستوطنات وإحاطة المدن الفلسطينية وبناء الجدار في القطاع، ومنها ما يتعلق بالانقسام المؤسساتي في الجانب الفلسطيني وضعف نفوذ النخب المؤيدة لحل الدولتين.

بعد خمسة أعوام، أي قبل أقل من عام، كتب دكتور آخر في العلوم السياسية هو إيان لاستيك مقالة في «نيويورك تايمز» بعنوان: «وهم حل الدولتين»، إذ قال: «إن احتمالية تلاشي إسرائيل كمشروع صهيوني بواسطة حرب أو بواسطة نفاذ مخزونها الثقافي أو تعاظم النمو السكاني أمر مقارب لاحتمالية إخلاء قرابة نصف مليون إسرائيلي يعيشون في الضفة الغربية».

بيد أن العنوان الأشد حسماً ما وضعه إيلان پابي لأحد بحوثه، إذ سمّاه «إعادة زيارة 1967: السردية الخاطئة في عملية السلام...». وهو أحد المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين انتقدوا الرواية التاريخية الرسمية في شكل جذري وحاد، وهو ما جعل من مسألة بقائه فيها أمراً صعباً، وحدا به إلى الانتقال إلى خارجها. وفي هذا البحث اعتمد على مجموعة من الوثائق الإسرائيلية من عقد الستينات التي فُسِحت أخيراً.

في هذا المبحث يقيم پابي الحجة على أن فكرة الاستيلاء على الضفة الغربية كانت موجودة لدى مجموعة من الجنرالات، من بينهم موشي ديان، منذ عام النكبة، إذ لم يوقفهم آنذاك إلا بن جوريون لاعتبارات جيوستراتيجية، إلا أنه في 1963 قُدِّم مخطط يقسِّم الضفة الغربية إلى مناطق عدة عسكرياً، يحتلُّها ويديرها الجيش عسكرياً. كان المخطط مفصلاً، حتى إنه ضم ترجمة للقانون الأردني، واختيار الفقرات المراد حكم المستعمرات الجديدة من خلاله، وتحديد من هي الشخصيات التي ستُدير هذه الأراضي بعد عملية الاحتلال. كل هذا قبل عملية الاحتلال الفعلي بأربعة أعوام.

هذا المخطط تحوّل إلى واقع بعد هزيمة 1967، إذ اتخذت الحكومة الإسرائيلية آنذاك مجموعة من الإجراءات ظلت تحكم الأرض في تلك المنطقة - بحسب پابي- حتى الآن، أي إنه حتى اتفاقات أوسلو لم تغيّر من أمرها شيئاً. تقوم هذه الإجراءات على مسلمتين رئيستين: الأولى رغبة الصهاينة بحكم أكبر قدر ممكن من أرض فلسطين التاريخية. الثانية: حكم أقل عدد ممكن من الفلسطينيين.

طالما أن الأمر كذلك، فلماذا لم تُعلَن الضفة الغربية جزءاً من دولة إسرائيل ويُهَجَّر من عليها من العرب، كما كان الأمر عام 1948؟ السبب في شكل رئيس أن الوضع العالمي ذلك الوقت لم يكن يسمح بالإعلان رسمياً عن ضم الضفة الغربية أو القيام بعملية تطهير عرقي واسع النطاق من جديد، ولهذا قُبل توصيفها الرسمي بأنها «أراضي محتلة»، والقيام بضمها بحكم الأمر الواقع عبر سياسات تُوطِّن اليهود فيها وتُعامل العرب معاملة مواطنين محرومين من المواطنة. أي أن الاستراتيجية كانت - كما يقول - «الحفاظ على الأراضي المحتلة، الإبقاء على أهلها، عدم منحهم أي نوع من المواطنة».

يرى پابي أن توصيف الأمر بأنه «احتلال» لا يقبض على تفاصيل المشهد كافة، ويفضل رؤيته باعتباره سجناً. سجن كبير يكاد يصل عمره إلى خمسة عقود حتى الآن، يضم سجانين ونزلاء، لدى السجانين كل وسائل السيطرة والتحكم وأدوات القمع، في حين ليس لدى النزلاء أي شيء. هذا السجن هو الذي تقوم عملية السلام كلها بمحاولة تحويله إلى دولة لهؤلاء النزلاء، وهو لهذا السبب تحديداً يصر پابي على اعتبار سردية عملية السلام خاطئة، لأنها لا تنطلق من معطيات وتفاصيل الواقع، إذ لا يمكن إقامة سلام بين سجان ونزلائه.

لهذا كله يكون ملحاً على العرب أن «ينسوا» ما جرى وما كان حتى يمكن لعملية السلام أن تُتخيل. إن عملية النسيان والتذكر في هذا الصراع الوجودي مع هذا الاحتلال باتت مسألة سياسية. إن واجب التذكر باستمرار مشابهٌ لواجب المقاومة والنضال ضد الاستعمار.

ومن هذه الزاوية تصبح ذكرى النكبة حدثاً سنويّا مهماً وضرورياً؛ لأنها تذكير مستمر، تأكيد دائم، على أن القضية لا تبدأ من 1967، وعلى أن القضية ليست محصورة في قطاع غزة والضفة، وعلى أن القضية تمس ملايين اللاجئين والمهجَّرين عن أراضيهم.

أخيراً، إنها قضية مواجهة احتلال، لا اعتداء من دولة طبيعية. هذا ما تعيده علينا ذكرى النكبة، وهذا ما يجب علينا نحن العرب أن نتذكره دائماً.

المصدر: الحياة، لندن