رسائل صبابة وحنظلة: أنا يوسف يا أبي
بقلم: نضال البيطاري
رافع، وجه من وجوه شباب كثر في مخيم اليرموك، لكنه قد يكون من أندرهم، إذ حفظ في عقله ووثائقه عائلات فلسطين. ابن 27 عاماً كان يحفظ ما كان يحدثنا به أجدادنا وآباؤنا، وكان أقدرنا على حفظ ما يقال في كل تفصيل يتعلق بفلسطين واهلها، رحمه الله. أقرا على صفحة صديقي أبو زيد على الفايسبوك ما يلي «هرمنا بين المنفى واللجوء المتكرر، وتعب الشهداء من خوفهم أن يدفنوا بمقابر الموت الطبيعي لأن ابناء قادتنا يملكون ثلثي مساحة المدافن. فهل من أرض باردة أو بين بين تستوعب نحل اجسادنا الممزقة؟» .
لا أستغرب حديثه أو تدمع عيناي كما هي العادة، ولا تستفزني مقالة د. إبراهيم أبراش التي عنونها بـ«من يحمي الفلسطينيين من أشقائهم العرب؟».
لم يكن الفلسطينيون على موعد مع القذائف التي قتلت أكثر من 20 زهرة في مخيم اليرموك، ولم تكن الأمهات وهن يحضرن طعام الإفطار على موعد مع صلاة استثنائية على أرواح أبنائهن قبل صلاة التراويح، ولم يكن محمد طلوزي الذي سمع الصوت وركض ليرى ما حدث، منتظراً أن يجد نفسه يحمل شقيقه الصغير وابن عمه إلى المشفى في محاولة يائسة لاسعافهم.
أما انا، البعيد عن مخيمي، فقد كنت انتظر كل ماحدث، وكنت في كل دقيقة من ذلك اليوم أقلب الصفحات بحثاً عن اسم الشهيد التالي، لأعلم إن كان الأصدقاء على قيد الحياة أم أن طعام الافطار قد فاتهم.
سأطمئن لاحقاً إلى ان كل أصدقائي نجوا، وأن موتاً «طائشا» قد ضل الطريق وأصاب بعض أهلهم، وأحمل نفسي على عزائهم، فالكلمات لا تجدي إذا اعتاد الناس انتظار الموت في غير أوانه.
لا يشفي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد، متأخراً عن شعبه بأربعمائة شهيد، غليلي إذ يستنكر على شاشة «العربية» ويعلن موقفاً رسمياً بوقوف حركة فتح إلى جانب ثورة الشعب السوري، ولا تسعدني مساعدات إنسانية آتية من رام الله إلى مخيم اليرموك.
لكن، يكاد الدم يفجّر عروقي عندما تملأ «الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة» المخيم سلاحاً بحجة الدفاع عنه، هي التي لم تتوان عن إطلاق النار على من تدعي حمايتهم. ويستفزني أن أرى المخيمات تدخل في فوضى السلاح فلا يعلم القاتل لماذا يقتل ولا المقتول لماذا قتل. وتقفز مشاعري عندما يتهم قائد لاجئيه بأنهم «هاربون»، بل وأفكر ملياً في ما دفع قائداً حمسوياً كمحمود الزهار إلى أن ينعت اللاجئين بالهاربين، وأن يصف معاركهم بـ«العشوائية». وفي غمرة التفكير هذه يقاطعني صديق لينبهني إلى أنني أفكر في الاتجاه الخاطئ، إذ نسيت أو تناسيت السؤال البديهي لكل فلسطيني: من هو قائدي؟
فلا الزهار نصبه شعبه، ولا أحمد جبريل. كلهم نصبوا أنفسهم، فإذا كان الأول يطلق النار على شعبه، وإذا كان الثاني قد تعلم تاريخ شعبه من الاسرائيليات في «يديعوت أحرونوت»، فالنتيجة البديهية أن أياً منهما لا يجدر به نعت نفسه بقائد .
قد كان الأمر مقضياً بالنسبة إلى أحمد جبريل فلا غفران على الدماء الفلسطينية التي يحملها في رقبته ولا على فوضى السلاح التي يجر إليها مخيمات سوريا، واليوم، قضي الأمر للزهار. فلا اعتذار منه سيقبل على ما نطق به من كفر بالقضية الفلسطينية وتاريخ شعبها، ولن ينال احد منا بلعبة سياقات الأحاديث، وما فهم او لم يفهم من سؤال المذيع وجواب ضيفه.
بأي عين ألوم حكومة لبنانية إن هي رفضت ان تستقبل لاجئاً فلسطينياً من سوريا بدمه وماله وعرضه؟ وبأي كلمات أقنع الأردنَ بأن تستضيفيني، أنا الفلسطيني، بعد ان ضاقت علي الدنيا بما رحبت. بأي عين أقول إن كان من يملك أمري يرفضني ويتهمني ويقتلني، فأي عتب على عدوي «الصهيوني» أو «شقيقي» العربي إن كان أحدهما قتلني والآخر رفض دفني، وابن أمي وأبي شاركهما القتل والانكار، فكنت يوسف يا أبي.
في العام 2006 عندما بدأ العدوان الاسرائيلي على لبنان، فتحت بعض الفصائل أبوابها فتوافد مئات الشباب ليقاتلوا عدوهم «الاسرائيلي»، كان رافع بين من تطوعوا، يتابع صديقه فياض قصته: «انتهت المعركة، فقلت لرافع يالله خيا نرجع الشام خلصت الحرب» ويضيف «لن انسى البراءة في عينيه يومها وهو يجيبني: خيا... انا بدي أحارب».
لم يستطع فياض أن يهنئ رافعاً بنجاته من «حادث المستحيل»، وانا اكتب هذا المقال قرأت خبر مقتل الشاب خليل الجنداوي على يد حارس من حراس الجبهة الشعبية القيادة العامة في مخيم اليرموك.
لله ما اخذ ولله ما اعطى، ولكن ربي إلى من تكلني؟ إلى قريب ملّكته امري أم إلى غريب يتجهمني؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن، أنبئهم ربي فإنهم يجهلون أن المارد إن استيقظ فإنه لا ينام، وأن «تحت جلودنا عاصفة وعرس جداول».
المصدر: الأخبار