رسائل صبابة وحنظلة.. كل شيء ولا شيء في آن
بقلم: إيمان بشير
أن أحبّ غريباً في منفاه، يعني أن أكون مملكته الأخيرة، يعني أن أكون موطن الولادة وموطن النهاية، يعني أن أجعل من جسدي مساحة وطن ومن خلاياي منازل، ومن قلبي مكاناً يدفن فيه. يعني أن أكون اللاشيء وكل شيء. طه، أنت الذي علم بحالي من دون أن أبوح له، أقول لك إنني متعبة من حب الغريب في منفاه. أنا الكل شيء، واللاشيء في آن.
أتعرف أين أكون الآن؟ ركبت سيارة أجرة لأول مرة منذ سنة، سائق السيارة مزيج من عدة ثقافات، لافتته تحمل اسمه وهو من عائلة بيروتية عريقة، مذياعه يغني «نعيم الشيخ»، و«تابلو» السيارة عليه ثلاث دمى لكلاب يهتزّ رأسها مع كل مطبّ. اتجهت الى حديقة الصنائع لأستجمع أفكاري وأكتب لك، لكنني أنظر فأرى كم هي جميلة هذه الحديقة بمن فيها، وكم هي حلوة بيروت! كم تحملت هذه المدينة من خطايا أهلها والغرباء، وكم تبدّلت وتغيّرت! كم نحب بيروت بميليشياتها التي لا تزال تخوض حربها حتى الآن، كم نحبها بشوارعها المثقلة بأبشع الذكريات، بجدران أحيائها التي لا تزال تحمل آثار الرصاص! وكم نودّ أن ننسى من نحن ومن تكون بيروت! إحساس بلحظة ضيق: أريد أن أكون في أي مكان غير هنا، أريد الابتعاد عن حضن هذه المدينة وحضن هذا الغريب، وفي لحظة أخرى لا يمكنني الابتعاد، رغم قذارة الشوارع وحقارة الذكريات. حتى ذاك الغريب الذي أحببته في منفاه، لا تعوّضه نساء الدنيا عن مساحة وطن ضاع، فأين أكون؟ وماذا أكون؟ إن كنت لا أستطيع أن أكون بديلاً للوطن، وليس باستطاعتي أن أكون نساء الدنيا كلها؟ أنا التي اشتقت حضوره في حضوره، وحضوره في غيابه، واشتقت حضوره مسافة الطريق. لم يعلم هذا الغريب بعد أن ما بيننا أصغر من مساحة وطن، وأكبر من مسافة طريق. أنا الكل في شيء واللاشيء في آن، وكم أشعر بأن هذه المدينة ستضجّ وتزدحم حتى تنفجر بمن فيها، وكم أريد الابتعاد عن هنا، وكم لا أريد.
محمود درويش كتب «ذاكرة للنسيان» في منفاه بيروت، وكلما قرأت هذا الكتاب أحسست بأن كل فلسطيني في هذا البلد هو محمود درويش.. هل قرأت هذا الكتاب من قبل؟ بالطبع قرأته... وهل يوجد فلسطينيٌ في العالم كله لم يقرأ لدرويش، وإن كان لا يحبّه؟
المصدر: الأخبار