القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

رمضان فلسطين.. من البيت إلى الشارع

رمضان فلسطين.. من البيت إلى الشارع
 

بقلم: مجد كيال

أن تكون طفلاً من حيفا في رمضان، يعني، في أغلب الأحيان، أن تغترب عن المدينة وتستقر طيلة الشهر في بيت جدّك في هذه القرية أو تلك، في الجليل (شمال فلسطين) أو منطقة المثلث (مركز فلسطين)، فالجميع يتفق على أن "رمضان في حيفا لا طعم له".

أما في الجليل والمثلث، فأن تكون طفلاً في رمضان يعني أن يخدعك الكبار بصيام ما يعرف بفلسطين بـ"درجات الجامع"، أي الصيام حتى صلاة الظهر، أن تنتظر صوت الآذان على سطح المنزل عوضا عن سماع مدفع رمضان "مثل المسلسلات السورية"، وأن تحلم بمشاهدة المسحراتي التي مرّت طفولة آلاف الأطفال من دونه. أن تكون طفلاً في رمضان يعني أن ترفض جدّتك بدء الإفطار إلا إذا أُعلن موعد أذان المغرب بصوت "أبو جرير" – المقدم الأسطوري لبرنامج رمضان في الإذاعة المحليّة.

لرمضان فلسطين مميزات وشروط لا يمكن التنازل عنها، خاصةً في ما يتعلق بالمائدة: الحساء قبل الإفطار، طبق "المقلوبة" الوطني بامتياز، "القطايف" كمكوّن مركزي في تشكيلة الحلويات اليوميّة. أما المحظور فهو شيّ اللحوم، حيث يمكن للرائحة الشهية أن تتحول إلى "وسيلة تعذيب" للصائمين إذا ما انتشرت في الحي، هذا عدا عن أن "هيبة" شيّ اللحوم لا بد من أن تُحفظ لأيام عيد الفطر.

رغم هذا، لا تمر سنة دون استحداث بعض العادات، ففي السنوات الأخيرة تعود شخصية المسحراتي لتظهر وتسحّر في شوارع القرى، ذلك بعد غيابٍ لهذه العادة امتد منذ منتصف الثمانينيّات تقريبا. إفطار العائلات في المطاعم عادة يرفضها كبار السن رفضا شديدا، لكنها تزداد من عام لعام، أما الصرعة الخاصة بهذا العام فهي دعوة الناس بعضهم لبعض لتناول طعام السحور، ومع هذا، لم يستطع أي فلسطيني حتى الآن أن يحلّ اللغز الأكبر: كيف ولماذا استبدلت قرى المثلث الحساء على مائدة الإفطار.. بأقراص الفلافل؟!

رمضان بالنسبة للكثيرين يعني المسلسلات التلفزيونية، أو على الأقل هكذا بدا الأمر، حتى بداية رمضان الحالي. نشهد تراجعا في متابعة المسلسلات، فغياب الدراما السورية عن الشاشات، إضافةً إلى انتشار مواقع الانترنت التي تسجل كل الحلقات من كل المسلسلات، حوّلت التلفزيون إلى عاملٍ ثانويّ. أحد المصلّين أثبت ذلك: "الناس كانت في سنوات قبل، تصلّي التراويح بثماني ركعات، عشان ميفوتهنش المسلسل، السنة الكل بصلّي عشرين ركعة".

تتميز السنوات الأخيرة بالخروج من البيت، فكلما زادت إمكانيات الترفيه في شوارع القرى، وازدادت معرفة التجّار بإمكانية الربح من الأجواء الكرنفالية، ازداد خروج الأجواء الرمضانية من بيت العائلة إلى الشوارع، حيث يفتح الشهر إمكانية لـ"حياة ليلية" لا تعرفها القرى عادةً. بعض الفتيات أشرن إلى أن هذه الأجواء تعطيهن إمكانية غير واردة بالنسبة للبيئة المحيطة في الأيام العادية، للسهر والتجوّل خارج المنزل حتى ساعات الليل المتأخرة. في هذا السياق يجب التذكير، أن عادات شهر رمضان لا زالت تكرّس المقولة الذكورية بأن "المكان الطبيعي للمرأة في المطبخ"، ولا زالت تدفع المرأة إلى "تحمّل أعصاب زوجها" الصائم، وكأنها هي ليست صائمة، أو لا أعصاب لها!

أما في حيفا، إذا ما أغلقت المقاهي والحانات أبوابها وضجّتها باكرا، فيمكن أن يصلك صوت المؤذن بوضوح، يكبّر من جامع "عبد الرحمن الحاج" في الحليصة، أو "الاستقلال" في وادي الصليب، أو "الجرينة" في ساحة الحناطير، أو من مكبّرات الصوت التي نصبها أهالي وادي النسناس، لعلهم يشعرون بشيء من أجواء رمضان، حتى ولو على هامش المدينة.

موائد سلطة الاحتلال

لا تتوانى سلطة الاحتلال الإسرائيلي عن التدخل حتى في شؤون رمضان. فمنذ زمن طويل وما يسمى بـ"موائد الرحمن" لم تعد موائد لإفطار العائلات الفقيرة، بل ساحة تستغلها الحكومة الإسرائيلية عبر وكلائها لتكريس الوضع الاجتماعي القائم.

عن طريق المؤسسات، البلديات والمجالس المحلية، وشخصيات عربية متواطئة، وشخصيات إسرائيلية "مرموقة"، تصرف "الدولة" مبالغ طائلة على مآدب رمضانيّة، تُدعى إليها "قيادات اجتماعيّة" لتناول الإفطار، فيتحول الإفطار إلى ساحة خطابات مديح للجهة المنظمة، غالبا ما تكون من بطولة رجال دين من كل الطوائف، يتنافسون في ما بينهم بالحديث "عن التسامح والأخوة والسلام بين الأديان"، أو مخاتير الأحياء والعائلات الكبيرة، ناهيك عن دور الشخصية الإسرائيلية التي تمثل الدولة، والتي تدّعي احترامها للمسلمين وصيامهم، في حين تسن القوانين لمنع مكبرات الصوت في المساجد، وتواصل مخططات تدميرها للمسجد الأقصى.

تكشف هذه الظاهرة البسيطة، التي تبدو للوهلة الأولى إفطارا رمضانيا روتينيا، النهج الذي تمارسه الصهيونية منذ بدأت مشروعها الاستعماري. تُشير دراسات أكاديمية كثيرة إلى سعي الاحتلال توطيد البنية الاجتماعية القائمة، بتعزيز دور وقوّة رؤساء العائلات الكبيرة في المجتمع، ورجال الدين على اختلاف طوائفهم، وتمكينهم من قيادة المجتمع بهدف ضرب القيادة السياسيّة، أيّ تشتيت الصف الوطني عن طريق تعزيز الهويّات القبلية والطائفيّة.

في الأحياء الفلسطينية الفقيرة، يعرف الجميع أن "الفقير لا يذل نفسه" لهذا النوع من الموائد. التكافل الاجتماعي العفوي، والموائد التي تُعقد في القرى والأحياء بين البيوت، بتكافل وتعاون ومشاركة بين السكّان، وليس بتمويل سياسي، تبقى هي الظاهرة الرمضانية الحقيقية التي تحمل في تفاصيلها النبض الحقيقي للمجتمع، وفي تفاصيلها فقط، يمكن أن تلمس الإمكانيات والاحتمالات الكامنة في المجتمع.

المصدر: السفير