«سجّل .. أنا فلسطيني»
بقلم: عريب الرنتاوي
شرّفني إخوة وأحباء من قادة الجالية الفلسطينية في ألمانيا بأن أكون ضيف احتفالاتهم هذه السنة بذكرى يوم الأرض المجيد، ولقد سُعدت بتلبية الدعوة الكريمة، من دون أن تبارحني الأسئلة والتساؤلات حول «طبيعة هذه الجالية، أولوياتها، مستوى اهتمامها بالوضع الفلسطيني الخاص ومستوى انخراطها في العمل الوطني العام»، ولقد كان البحث عن أجوبة شافية لأسئلتي الحائرة، مدعاة إضافية لتلبية دعوة الإخوة والأعزاء.
في دورتموند، المدينة الصغيرة، ذات الستمائة ألف مواطن (بموازنة تناهز موازنة دولة بكاملها)، تقاطر مئات الفلسطينيين المقيمين في المدينة وجوارها، جاءوا بعائلاتهم من مختلف الأعمار والأجيال، حضرت الفصائل على اختلافها، ارتفعت الرايات والكوفيّات، وصدحت مكبرات الصوت بصوت فيروز وأغاني الثورة والتراث الشعبي الفلسطيني، لوحات الشباب والصبايا بشكل عفوي، لوحات من الدبكة الفلسطينية، عُلِّقث الصور والمطرزات واللوحات، التي تذكر بمدن فلسطين التاريخية، وبفصول مختلفة من مراحل نضال هذا الشعب وحياته، الجيل الرابع من أبناء النكبة، أطفال في عمر الرياحين، جاءوا متدثرين بالكوفية والراية، في إشارة تحدٍّ، لا تخطئها العين، على حيوية هذا الشعب، وتشبثه بوطنه وأرضه وحقوقه، مهما طال الزمن، وفي سقوط آخر مروّع ومدوٍّ، لنظرية «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، وفي هزيمة نكراء لرهانات «الآباء المؤسسين» للحركة الصهيونية، بأن تعاقب أجيال الفلسطينيين، سيُنسيهم فلسطين، وإن بعد حين.
هذا يسألك عن مقابلة أجريتها على البي بي سي، وذاك يسألك عن حوار على الجزيرة، وثالث يعيد على مسامعك، ما سبق وأن كتبته في زاويتك هذه، مؤخراً أو قبل سنوات، سيل من الأسئلة والتساؤلات والحوارات، لم ينقطع منذ أن تشابكت الأيدي بالمصافحة، والتحمت الأجساد بالعناق الدافئ والحار.
في كل مرة أتيت بها على ذكر منظمة التحرير، أو استذكرت فيها شهيداً لفتح أو حماس أو الشعبية أو الديمقراطية، كانت القاعة تلتهب بالتصفيق، الجميع توّاقون لاستيقاظ حركتهم الوطنية، الجميع مشتاقون لمنظمة التحرير ممثلهم الشرعي الوحيد، الجميع بلا استثناء، يريد إتمام المصالحة واستعادة الوحدة، بل ويريدها الآن وليس غداً.
ولقد كان لحضور الفنانة المبدعة تمام الأكحل أرملة الفنان الكبير اسماعيل شموط (رحمه الله)، «زيتونة فلسطين» كما أطلق عليها رئيس الجالية الدكتور هشام حمّاد، أثر ساحر في حفل الجاليات الفلسطينية بيوم الأرض، صعدت إلى المنصة تعرض ما جمعته من أوراق طابو وجوازات سفر وعملات وطوابع فلسطينية، من العصرين العثماني والانتدابي، لتدحض رواية كل «الدجّالين» و»سرّاق الأرض والحقوق» ولتثبت بأدواتها الفنية المرهفة، أن فلسطين كانت على الخريطة الجغرافية والسياسية، كياناً نابضاً بالحياة والحضارة والمدنية، حتى قبل أن يحسم هؤلاء أمرهم، ويقرروا أن فلسطين وليست أوغندا، هي الوطن القومي الموعود لشعب الله المختار؟!.
كانت مناسبة بالغة الأهمية و»العاطفية» بالنسبة لي، عرضت في خلالها لمآلات المشهد الفلسطيني بعد انسداد أفق السلام وانهيار خيار المفاوضات، كانت مناسبة لحديثٍ من القلب إلى القلب، حول الحاجة لبعث منظمة التحرير الفلسطينية وإحياء الحركة الوطنية الفلسطينية من جديد، كانت مناسبة لتذكير الجاليات، التي لا تحتاج لمن يذكرها، بأن لها دوراً حاسماً، يجب أن تلعبه في فرض خيار المصالحة وإعادة بناء المنظمة وهيكلتها وتفعيلها.
في حوارات القاهرة واتفاقاتها، أجمعت القيادة الفلسطينية، فتح وحماس ومختلف الفصائل، على الحاجة لإحياء المنظمة ودمقرطتها وإعادة هيكلتها، بدءا بالمجلس الوطني الفلسطيني الذي ينبغي أن يغادر مربع «التعيين» و»الكوتات الفصائلية» إلى مربع «الانتخاب» و»صناديق الاقتراع»، لكن شيئاً فعلياً على الأرض، لم يتحقق حتى الآن، ليس بسبب تعثر المصالحة فحسب، بل وبفعل غياب الجدية في التعامل مع هذه المسألة، لكأن قرار إجراء الانتخابات، اتخذ من باب «المسايرة» و»التناغم» مع مناخات «الربيع العربي».
لا أحد جال على الجاليات، لا أحد رسم بدقة خرائط توزعها وأعدادها، لا أحد لديه كشوف بالناخبين، لا نعرف شيئاً عن «الهيئة الناخبة»، بدلالة أنني كنت شاهداً على حوار حول تعداد الجالية الفلسطينية في ألمانيا، بين نشطاء الجالية ذاتها، الأرقام التي استمعت إليها راوحت ما بين 75 ألفا وربع مليون لاجئ فلسطيني؟!.
معيار الجدية الأول والأخير، في الحكم على جدية التوجه الفلسطيني نحو الانتخابات، يتمثل في تعداد الجاليات ورسم خرائط توزعها الجغرافي، وإعداد كشوف الناخبين وتسجيلهم تحت إشراف جهات نزيهة ومحايدة، ومتوافق عليها، وهذا هو الأهم، مثل هذه العملية ستستغرق أشهراً عديدة، فكيف يردد بعضنا من دون تمحيص، أننا نريد انتخابات للمجلس الوطني في كل الساحات التي يمكن فيها إجراء مثل هذه الانتخابات، وفي غضون ثلاثة أشهر فقط من تشكيل حكومة المصالحة؟!.
لقد عرضت على كثيرٍ من الإخوة الذين التقيتهم، وكررت ذلك في كلمتي أمام الحشد المُتميز للجالية، بأنه يتعين علينا الشروع في الاستعداد لإجراء الانتخابات، عبر التنسيق بين أطر الجاليات ونشطائها، وتنظيم علميات الحصر والتسجيل، لافتاً إلى مبادرة يقوم بها عدد من النشطاء تحت عنوان «سجّل، أنا فلسطيني».. أي سجّل للانتخابات، لممارسة حقك في المواطنة التي تملي عليك، اختيار ممثلك إلى المجلس الوطني، بصورة حرة وطوعية وشفافة، وسط تجاوب واهتمام مفاجئين من قبل من تحدثت إليهم، وأحسب أن حراكاً شبابيا ومجتمعياً قد بدأ في عدد من المدن الأوروبية والأمريكية (الأمريكيتين)، تحت هذا العنوان، يستحق كل التشجيع والإسناد من قيادة المنظمة والسلطة وحماس، ومن قبل مختلف الفصائل الفلسطينية، إذ من دون إتمام هذه العملية، من دون توفير الفرصة لكل مواطن فلسطيني بلغ الثامنة عشرة من عمره، للإدلاء بصوته، فإن كل هذا الحديث عن انتخاب المجلس الوطني، يبقى حبراً على وراء، أو كلام ليل يمحوه النهار.
المصدر: جريدة الدستور الأردنية