سفينة العودة.. مؤتمر شعبيّ
لفلسطينيي الخارج !
بقلم: د. أسامة الأشقر
لاح ضوء يهتزّ في نقطة
معتمة في نفق طويل كئيب يدلّ على أن ثمة أقوماً ما زالوا يبحثون عنا منذ دهر وقد أعياهم
التلويح بهذا النور ... إلا أنا قد وصلنا!
ربما اعتاد بعضنا الظلام
وألِفَه وصار جزءاً منه فعميت عيناه وطُمِست عند آخرين، يتلمسون بحواسهم فتاتاً يَلْقونه
في قاع لا هيئة له، لكن الكثيرين منا كانوا ينشّطون أوتار أعصابهم على الحركة ويتخيّلون
الضوء لئلا يعتادوا الظلام الذي تركّب فوقهم.
لقد أمضينا عقوداً طويلة
بين اللجوء والاغتراب في شتات الأرض نبحث عن مراكب تعيدنا إلى وطننا الكبير، إلى حلمنا
المسافر، إلى حيث ننتمي، إلى منابتنا الأولى وعشقنا العريق.
كنا نسمع صفير مراكب تنادينا
لكنها كانت تريد رمينا إلى أبعد مسافة عن وطننا، بقينا حيث نحن نتلمّس طريق العودة
في مراسي الانتظار.
كانت هناك عناوين لمكاتب
تحمل أسماء مألوفة لدينا، لكنّ كل من مرّ بها عاد باكياً، إنها عناوين فحسب ليس فيها
ما يحملكم إلى هناك، ولكن عليكم دفع ثمن تذاكر الدخول فيها فحسب!
يمكنك أن ترانا بسهولة:
نحن ألفٌ هنا! وعشرة آلاف هناك، ومائة ألف ومائتان وثلاثة وأربعة إن شئت... بل نحن
ملايين، إننا ثلثا الشعب، إننا المهجّرون المطرودون، إننا المنفيّون المبعَدون، بعضنا
يصارع الحياة ليبقى على قدميه، وبعضنا قهر ظروفه القاسية واعتلى فرسه، وبعضنا بات الآن
يحلّق بأمل....
إننا كوادر وخبراء، إننا
إداريون ونقابيون، إننا تجارب متحركة، إننا طلاب وجنود، إننا شعب جاهزٌ للعودة، لكن
أحداً لا يلتفت لنا، ولا يعبّر عنا، ولا يفتح لنا مساراً عمليّاً يقدّر ما نحن فيه
ويبني على ما وصلنا إليه.
ربما كنا نحن المخطئين
لأننا كنا ننتظر النجدة من هناك، ولم نبادر لبناء مراكبنا واختيار أمراء البحر من أهل
الدراية منّا، فنحن أعرَفُ بطرق العودة التي خرجنا منها من قبل... إنها فرصتنا للعودة
فدَعونا نتخذ مراكبنا ونسافر بها عبر الأمواج، فأنتَ إن لم تحاول فلن تجد فرصة للوصول.
ها قد لوّحت لنا مراكبنا
المنتظَرة، وعلا صفيرُها، نسمع خطوات الأقدام الذاهبة تجاهها، بات سمعنا مرهفاً يلتقظ
ظلال الأصوات من طول الرقود في الظلال المعتمة.
هناك سفينة كبيرة مكتوب
عليها (المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج) إنني واحد منهم، إنها سفينتي المنتظَرة بلا
شك! إنهم يبشِّروننا بها، وصَفوها لنا وأخبرونا عن وجهتها وجمال الركوب فيها مع رفاق
مشتاقين عاشقين وعاملين عليها أيضاً.
مكتوب في خلفية تذاكرها
المجّانية أنها متجهة إلى فلسطين، وأن خرائط العودة الأولى لديها، وتحمل أوراقاً ثبوتية
تؤكد أنها ابنة الثورة الأولى التي قامت لأجل الحقوق الثابتة، وأنها ناصعة القيم واضحة
المبادئ، لا تتلوّن ولا تتقنّع، وهي حكيمة هادئة لا تستعجل النفير الصاخب، ولا تعاند
الأمواج المضطربة، وتبحث عن منافذ الدخول بين الأمواج بصبر واتّزان مع وضوح الطريق،
وتحكيم البوصلة، وهداية النجوم التي ترسم لنا مسار العودة بإشارات نورانية ثابتة تضيء
رغم تكاثف الظلام.
دخلتُ المرسى، كان نظيفاً
مستعداً للركاب، أنواره معلّقة في كل ناحية، وتحت كل نور تجد لافتة تدعوك للاقتراب
منها بأدب واحترام:
إذا كنتَ تريد العودة لفلسطين
فستجد مقعداً باسمك هنا!
عودتك لفلسطين تعني أنك
ستعود لوطنك!
العودة للوطن تعني أننا
لا نريد محتلاً يشاركنا فيها!
إننا نقرر مصيرنا بأنفسنا،
ولن نتعرض لخديعة العالم ثانيةً!
ثم تدخل إلى قاعات السفينة
فتجد صفوفاً مرصوصة من الكراسي المتصلة بحرص مكتوب في ظهر كرسيّ:
إذا مللتَ انتظار أحد فلا
تكرِّر هذه التجربة ثانية! عليك بالعمل!
أنتَ المسؤول الأول عن
قضيتك، وأنت المعنيّ بها، وعليك أن ترسم طريقك، ولا تدع فرصة للطامعين ولا للجبناء
أن يرسموها لك!
هناك تجد لافتات ولوائح
وضعها خبراء العودة وروّاد التحرير، تحمل أحلامي الأولى، وذكرياتي الجميلة، لا تشويه
فيها ولا تطاول ولا احتيال ...:
إننا نبحث عن وحدة الوطنيين،
ولن ننتظر مراهقات كاذبة تحمل شعارات وحدة وطنية ثم تتصرف بضربها وتهشيمها.
نريد مؤسسات حقيقية تقودنا
ولا تخضع لمتنفِّذين مستتِرين أو مقنّعين بأجندات لا تتفق مع أهدافنا وقيمنا وثوابتنا.
ما يجمعنا هي هذه الثوابت:
العودة والتحرير وتقرير المصير، ولن تفرقنا الوسائل ولا المسارات إذا كانت نهاية الوجهات
واحدة.
نبحث عن شراكة حقيقية لا
تتجاهل أحداً ولا تبعد أحداً ولا تتآمر ضد أحد منا؛ فكلنا شركاء من أجل الوطن ....
إنها فرصة لتجديد أحلامنا،
فدَعونا نسترد أحلامنا، ولا تعكّروا صفوَها المستعادَ، ولا تشوِّشوا عينًا بهَبُوب
الفشل، فنحن لم نعد صغاراً، ولدينا الشجاعة لنقول: كفى.