سياسات التقشف الفلسطينية...المزيد من الفقر
ماهر عابد
وزير المالية الفلسطيني في رام الله الدكتور نبيل قسيس وفي معرض تناوله للازمة المالية التي تعانيها السلطة الفلسطينية وعدم قدرتها على سداد رواتب العاملين فيها، يوضح أن الطريق الوحيد لتجاوز الأزمة يتم عبر تخفيض قيمة الرواتب التي تدفعها، مبينا أن كل خطط التقشف المطروحة لن توفر أكثر من 50 مليون دولار سنويا، وبالتالي فلا مناص من المس بالرواتب.
ويبدو أن حضرة الوزير المحترم لا يعرف أن هذه الرواتب التي يراد خفضها قد انخفضت أصلا خلال الأربع سنوات الماضية بما قيمته 40% على الأقل وذلك بسبب موجات الغلاء الفاحش المستشرية، وهو الأمر الذي دعا الموظفين إلى إعلان سلسلة من الفعاليات النقابية والإضرابات مطالبين بزيادتها أو على الأقل احتساب قيمة غلاء المعيشة بشكل حقيقي.
مالم يقله وزير المالية - وهو يدرك ذلك تماما- أن المشكلة المالية الحالية بنيوية وهيكلية، وحلها لا يتم عبر خطوات ترقيعية تمس بالطبقات الأكثر حاجة، بل يتم عبر خطوات ذات طابع سياسي وليس اقتصادي فحسب.
مشكلة سياسات السلطة الفلسطينية الاقتصادية والسياسية أنها قد ربطت الاقتصاد الفلسطيني بمجمله بالاحتلال الإسرائيلي عبر الاتفاقيات التي تم توقيعها، وهو الأمر الذي أدى إلى تراجع القطاعات الإنتاجية وانكماشها بصورة خطيرة جدا، في حين أن القطاعات الخدماتية ذات الطابع الاستهلاكي قد تضخمت وانتفشت بدون الاستناد على قاعدة من الإنتاج، بل استندت إلى ما يتكرم به المجتمع الدولي من معونات ومنح مشروطة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اقتصاد التسول، كما أن هوسنا بإقامة هياكل ومؤسسات "دولة" قبل انجاز مهمة التحرير،جعل هذه المؤسسات عبارة عن تجمعات من البطالة المقنعة التي تنتظر الرواتب بدون عمل.
هذه السياسات في مجملها العام عملت على زيادة تراكم الثروات لدى بعض النخب الاقتصادية المحدودة والتي سيطرت بوكالاتها واحتكاراتها على السوق الفلسطيني، وعززت انتشار ظاهرة الاستهلاك الترفي الذي لا تستفيد منه إلا القلة، وأدى فتح السوق الفلسطيني على أسواق العالم ضمن سياسة السوق الحرة المفتوحة إلى تدمير تدمير القطاعات الإنتاجية المحدودة والمضيق عليها من الاحتلال أصلا كالزراعة والصناعة، وبالتالي فقد تلاشت الطبقة الوسطى من المجتمع الفلسطيني، وبتنا اليوم أمام واقع يقول أن أكثر من 90% من المجتمع الفلسطيني يعاني الفقر بدرجات مختلفة، في حين أن أقل من 10% تعيش منفصلة في أبراجها العاجية وثرائها اللامحدود.
أمر آخر نطرحه في هذا السياق، وما دمنا نتحدث عن التقشف، فلماذا لا يكون التقشف مقصورا على الطبقات العليا من كبار الموظفين، حيث أن 50% من الرواتب التي تدفعها السلطة الفلسطينية تذهب إلى جيوب 20% من الموظفين، في حين أن أل 80% يتقاسمون 50% فقط، وبذلك نحقق بعض العدالة ولا نمس بالطبقات التي باتت مسحوقة تماما من صغار الموظفين.
كما أن إعادة النظر في توزيع الميزانية يبدو ضروريا، فالسفارات الفلسطينية- كمثال- المنتشرة في كل أنحاء العالم والتي يصل عددها إلى 174 سفارة ومفوضية، والتي تستهلك من هذه الميزانية الشيء الكثير بدون انجازات حقيقية، حيث تصرف ملايين الدولارات في سبيل رفاهية مئات الدبلوماسيين الفلسطينيين على شكل (راتب مضاعف + منزل + سيارة + مصروف دراسة الأبناء + فواتير هواتف نقالة وثابتة + بالإضافة للبدائل)، وهذا عدا عن ملايين أخرى يتم صرفها لإقامة حفلات واستقبالات متنوعة، هذه السفارات بحاجة إلى إعادة نظر، فمن غير المعقول أن نكون غير قادرين على سداد رواتب معلمينا- على سبيل المثال- وبالتالي تدمير العملية التعليمية من خلال الإضرابات، وفي المقابل ندفع مبالغ ضخمة لتمويل سفارات لا تجلب لنا إلا الإخفاقات- برأي هشام ساق الله- الذي يؤكد أن هناك سفراء استغلوا وضعهم الدبلوماسي لإقامة علاقات تجارية اجتماعية، وابتعدوا عن نشر القضية الفلسطينية في وسائل الإعلام بالدول التي تستضيفهم، لدرجة أن بعضهم لم يجرِ مقابلة مع صحيفة ولم يلتق مع الجالية الفلسطينية، بل يمضي أوقاته في الفنادق والكفتريات، وبعضهم بالبارات والزيارات الخاصة وإقامة علاقات شخصية مع سفراء الدول الأخرى.
إن من يفكر بحل الأزمة المالية عبر تقليص الرواتب أو إلغاء العلاوات لصغار الموظفين عليه أن يدرك انه بهذا الأمر يضيف المزيد من السوء إلى واقع متردٍ أصلا، ولن يجني من هذا سوى الفشل وزيادة تراكم الغضب الشعبي.
اختم هنا بقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسياسة التقشف التي اتبعها في عام الرمادة، لعلها تكون نبراسا لنا في أزمتنا الحالية، حيث يقال أن عمر كان رجلاً عربياً يأكل السمن واللبن فكان أبيض اللون، لغاية أن جاء عام الرمادة والمجاعة التي حدثت، فحرّم على نفسه كل ألوان الطعام إلا الخبز والزيت، فتغير لون بشرته، وكان يقول لبطنه: لا تطعمين، والله لتموتن أيتها البطن على الخبز والزيت حتى يحيا الناس. حتى إذا اشتد عليه الجوع وكأنه يكلم بطنه ويقول: افعلي ماشئت فوالله لا تأكلين إلا الخبز والزيت حتى يباع السمن في السوق. وفي يوم من الأيام أثناء عام الرمادة ذبحوا له غنماً وقدموا له الطعام فنظر إلى الطعام وقال: بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كرانيفها العظام بئس الوالي أنا إن فعلت ذلك.