سـوريـا بـعــيـون فلسطينيّة
بقلم: مجد كيال
الأحداث الدمويّة في مخيم اليرموك أعادت الفلسطينيين إلى عين العاصفة السوريّة. عبر الانترنت والتلفزيون، يُقصف مسجد على اسم القائد العربي عبد القادر الحسيني الذي استشهد في معركة القسطل، واحدة من أشهر معارك النكبة. لكن المشهد لا يتسع للانشغال بالرموز والاستعارات. معرفة الفلسطينيين في فلسطين بالثورة السوريّة تنحصر بحدود الشاشة، رغم أنها أقرب إليهم جغرافيا من أي موقع آخر.
«عدم فهم الصورة» أفضل الحلول، وإلا فانكشافات
تختلط الأمور كلما ارتفع منسوب الدمّ، وكلما زادت الكتائب وكثرت أسماء الهيئات التمثيلية للمعارضة، والتي يصعب على الكثيرين فهم مكانها وسياقاتها ودورها في هذا المخاض الأليم. بعض القيادات السياسية تبدو مرتاحةً لـ«عدم فهم الصورة»، وتعابير أخرى صارت مألوفة على لسان كل من يخشى اتخاذ موقف حاد وجازم قد يؤدي إلى خلافات داخل تياره السياسي. كشفت الثورة السورية المشهد السياسي في فلسطين، وأوضحت وزن البنود المتعلقة بالحريّة والديموقراطيّة والمساواة والمواطنة في البرامج السياسية للأحزاب، وفي كتابات المثقّفين والصحافيين على اختلافها. كلها بنود تراجعت أمام اعتبارات «الأمن القومي» و«حماية المقاومة». العلمانيّة بحسب الفلسطينيين المؤيدين للنظام السوري لا تتجاوز مكافحة السلفيين، وبين تخلص الفكر القومي من المبادئ الديموقراطية من جهة، والتديّن الشيوعي من جهة أخرى، تضيع المقولة الفكريّة لصالح التخمين وادعاء المعرفة الاستراتيجية والتكتيكية للواقع الإقليمي ومستقبله.
هذا الوضع بالتحديد يعكس جزءاً جدّيا من تأزم العمل السياسي في فلسطين، ومظاهره هي الانشغال في إدارة الصراعات المحليّة، والركض وراء الأحداث السياسية اليوميّة، في عملية رد فعل متواصلة على الواقع الذي تفرضه إسرائيل من جهتها بشكلٍ ممنهج. وفي هذا الاطار، تغيب الرؤية المستقبلية لشكل الوطن الذي يريده التيّار السياسي، يغيب الهم الفكري ويتراجع الدور الاجتماعي الداخلي عن حلبة السياسة، وتصبح قضايا النساء وحقوق العمّال وأزمة المسكن وحقوق الأطفال والتعليم أمورا ثانوية. وينعكس ذلك عملياً بتعثّر بناء المؤسسات الوطنيّة الاجتماعية والتثقيفيّة، وفك الارتباط إلى حد كبير بين الجمعيات الأهليّة والأحزاب السياسية.
فوضى عارمة
تركت الثورة السورية أثرا كبيرا على التيارات السياسية في الداخل وصل إلى حد انقسامات جديّة انعكست في مؤتمرات الأحزاب التي عُقدت مؤخرا. الهيئات الحزبيّة تجاوزت الأزمة غالبا بواسطة مواقف وسطيّة فضفاضة تتحدث عن احترام «حق الشعب السوري بالحرية والكرامة»، دون أن تتوانى بالمقابل عن تبني ادعاءات يطلقها النظام السوري حول «المس بوحدة الشعب السوري ورفض التدخل الأجنبي، والعصابات المسلحة ودور سوريا الممانع». وظهرت في الصحافة الفلسطينية في الداخل مقالات وتصريحات رسمية لقيادات حزبيّة تتناقض مع مواقف الحزب أو مواقف قيادات أخرى فيه. لم تشهد الساحة الفلسطينية منذ زمنٍ طويل مثل هذه الفوضى.
المؤيدون للثورة السورية مختلفون في أسباب تأييدهم
وقف التيّار الإسلامي في الداخل بوضوح داعما للثورة السوريّة، وشهدت مدن وقرى عديدة فعاليات تضامن نظّمتها الحركة الإسلاميّة، كما حازت الثورة السوريّة أولويّة في القضايا التي طرحتها الحركة في مهرجانها السنوي تحت عنوان «الأقصى في خطر»، والذي يُعتبر أكبر مهرجان يقام داخل فلسطين ويشارك فيه عشرات الآلاف. لكن الخطاب الإسلامي المؤيد للثورة يختلف تماماً عن خطاب سائر التجمّعات الاخرى المؤيدة، وعلى رأسها حركة «فلسـطينيّون من أجل الثورة السـوريّة»، لجهة اسـتخدام التيار الاسلامي المصطلحات الطائفية، بما فيها التحريض على النظام على أنه «باطني» و«نصيري». وهو ما يجعل تلاقي الاتجاهات المؤيدة للثورة السورية داخل فلسطين شاقاً، ويعيد الاعتبار الى أهمية المنطلقات.
الحزب الشيوعي لا يرى تناقضاته
أما الحزب الشيوعي الفلسطيني، فلا تتوانى قيادته في دعم سلطة الأسد، في حنين واضح إلى استعادة روسيا مكانتها الإقليمية، رغم انهيار النظام السوفياتي. وفي ذلك تناقض مع مواقف الحزب الداخليّة تجاه اسرائيل، والتي يعرف بأنها أقل حدةً وصداميّة من بقية التيارات السياسيّة في الداخل. ففي العام نفسه الذي انطلقت فيه الثورة السوريّة، شارك الحزب الشيوعي رسميا بقوة، بكوادره وقياداته، في الاحتجاجات الاجتماعية الإسرائيلية إلى جانب حركات إسرائيلية. وخطبت القيادات الشيوعية الفلسطينية أمام الجمهور الإسرائيلي في جادة «روتشيلد» في تل أبيب، وإلى جانب قيادات إسرائيلية. وها هي ذاتها تكتب مطالبة الجيش السوري بـ«الحل السريع، القطعي والنهائي، أمنيا وعسكريا» ضد «المؤامرة».
التيار القومي متشرذم
لا تقل أزمة التيار القومي حدّة. والتفاوت بين قياداته متأصّل في اشكالية القومي والديموقراطي. يتحدث التيار القومي في أدبياته وبرنامجه السياسي عن ضرورة الامتناع عن «القومجيّة الشوفينية» عن طريق التشديد على المبادئ الديموقراطيّة ومفاهيم المواطنة والحقوق والحريّات، لكنه إذ يتشكّل في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يكشف في ممارساته عن وجود شقّين: الأوّل، الداعم بقوّة للنظام السوري، يسعى علنا لوحدة القوميين والإسلاميين في الداخل، وتدل ممارسته على النأي بالنفس عن القضايا الاجتماعيّة، خاصةً بما يتعلّق بالحريّات الفرديّة وحقوق المرأة، بل التواطؤ في أحيانٍ كثيرة مع سلب هذه الحريّات للحفاظ على وحدة الصف مع الإسلاميين. من الجهة الأخرى، نلمس وجود الشق المؤيّد للثورة السوريّة، رغم نقاشاته حول مخاوف التدخل الأجنبي في سوريا، وهو شق شبابي، نسوي، وعلماني، يعمل لإعادة القضايا الاجتماعيّة إلى صلب الجدل السياسي وجدول أعمال التيار القومي، وقد شهدت السنوات الأخيرة إنجازات سياسيّة كثيرة منها، تحصين مشاركة النساء في ثلث المؤسسات الحزبيّة على الأقل.
هذه الاختلافات بين شقّي التيار القومي كانت موجودة دائماً، لكن الأحداث في سوريا جعلتها تبرز بقوّة، خاصةً بعد الظهور الإعلامي لعزمي بشارة الذي قاد هذا التيار لفترة طويلة، ومواقفه من الثورة التي لم تحظ باتفاقٍ كامل داخل حزبه.
شبّيحة لعيون المقاومة
وقد شهد مسرح الميدان في حيفا صداما بين عمّال وروّاد المسرح من جهة، ومجموعة نظمت اجتماعا في قاعة المسرح الصغرى تتضامن فيه مع نظام الأسد. ولعل المفارقة الكبيرة هي أن هذا الاجتماع تزامن مع عرض لمسرحيّة «قمر على باب الشام» للمخرج السوري من الجولان المحتل معتز أبو صالح، والتي تحكي قصّة أسيرين محررين يتوقان للعودة إلى الوطن. وقعت مشادة كلامية بين رواد المسرح وبعض الذين تفاخروا بكونهم «شبّيحة لعيون المقاومة»، سرعان ما تطوّرت إلى اعتداء على عمّال المسرح واشتباك بين المؤيدين والمعارضين للثورة السوريّة. المسرح من جهته أصدر بيانا يدين فيه منظمي الاجتماع. لكن البيان نفسه لم يسلم من خلافات حادة داخل مجلس إدارة المسرح.
نجد في كل التيارات السياسية مجموعات شبابية كثيرة تشكّل تحديا مبدئيا، تقرأ الأيديولوجيات قراءة نضرة وحيوية وترفض إجمالاً الانشغال بنظرية المؤامرة لقلة ما توفّره النظرية من أدوات تحليل ومعرفة وتغيير. وهي تواجه قيادات تتعاطى الحياة السياسية بأصوليّة حزبيّة من الدرجة الأولى. فجوة الأجيال هذه حاضرة بقوّة في المشهد السياسي عامةً، والخلاف حول الثورة السوريّة يتولى تظهيرها.
المصدر: السفير، بيروت