شاليط.. فــرصــة ضــاعــت
بقلم: بن كسبيت
في النهاية، الأمر يتعلق بأحد أشد الإخفاقات الإسرائيلية دوياً على الصعيد الاستخباري، العسكري، مكافحة الإرهاب، أبداً. دولة طارت إلى عنتيبة وأعادت من هناك مئات الرهائن، دولة علمت العالم التصرف بطريقة أن لا مفاوضات مع الإرهاب، بل تجب محاربته، وقد فهم العالم واستوعب، أن هذه دولة مع استخبارات هائلة، وسائل تكنولوجية متطورة، جيش هائل ومدرب وخبرة عملياتية لا مثيل لها في العالم، هذه الدولة لم تفلح في معرفة أين يختفي جنديها، الموجود على مسافة كيلومترات معدودة في أرض العدو، في قطاع ضئيل ومسيطر عليه. وطوال أكثر من خمس سنوات لم تفلح في خلق وسائل ضغط، لم تفلح في تجنيد العالم، وفي النهاية اضطرت للتراجع من أجل استعادته.
واسحق مردخاي، وزير الدفاع الأسبق، الذي خدم قائداً للجبهات الثلاث، والذي قاد في حينه اقتحام الحافلة رقم 300، يروي نكتة: اقتحم بلطجي بيتاً. أخذ الزوج وأمره برسم دائرة في وسط الصالون وأبلغه، لا تخرج من هذه الدائرة. وأخذ الزوجة واغتصبها على الكنبة أمام زوجها، وذهب. جاء الناس حاملين على الزوج، كيف سمح لأمر كهذا بالحدوث في بيته. ردّ عليهم الرجل: عن أي شيء تتحدثون، لقد غافلت البلطجي وخرجت من الدائرة مرتين، ولم ينتبه. وبحسب مردخاي، هذا ما جرى لنا مع جلعاد شاليط وحماس في غزة. لقد اغتصبونا عندنا في الصالون، والآن نحن نتفاخر بإجبارنا حماس على إبداء مرونة في المفاوضات. ويقول مردخاي، ما الفرق، إذا كنا نفرج عن 290 مؤبداً أو 790 مؤبداً. المبدأ هو المبدأ.
وإذا كان مردخاي، الذي كان وزير دفاع معتدل وحذر، والعنصر المتزن في حكومة نتنياهو الأولى، يقول ويفكر هكذا، ماذا سيقول ليبرمان؟ هاكم ما يقوله (كما سمعته منه أمس الأول): «لا ينبغي التحادث مع الإرهاب. نقطة. عندما يعرفون أننا لا نتحدث إليهم، إلا عبر فوهة الإم 16 أو الأف 16، الأمور ستتغير. وإذا عرفوا أنهم في حالة كهذه لن يبقى منهم أحد على قيد الحياة، لا أحد، لا هنية ولا الجعبري ولا بطيخ، وأن "إسرائيل” ستقضي عليهم واحداً واحداً، مهما كان الثمن، الأمور ستتغير. إننا نفكك بأنفسنا كل ما بنيناه طوال سنوات، فالعالم بأسره لا يتباحث مع الإرهاب. لا الأميركيون ولا الروس ولا حتى الأوربيون، فقط نحن. وبشأن شاليط كان ينبغي تنفيذ عملية إنقاذ، بغض النظر عن النتائج لأن هذا سبيل التحادث مع الإرهاب».
سألت ليبرمان عن الربيع العربي حيث الناس هناك أيضاً يريدون حياة أخرى وديموقراطية ومساواة. هزأ ليبرمان وقال: «ربيع عربي؟ هذا شتاء. في النهاية سيفهم الجميع ذلك. أنظر من يقود المتمردين في ليبيا. إنه مساعد أسامة بن لادن، الذي كان في السجن الأميركي في أفغانستان. ها هو يحرّر ليبيا».
إخفاق مقلق
المشكلة مع نظرية ليبرمان هي أنها جربت في الماضي. إذا عدنا للحظة إلى اسحق مردخاي، فإنه في الحافلة 300 قبل 27 عاماً قتل اثنان من المخربين أثناء السيطرة على الحافلة واثنان لاحقاً على يد الشاباك. حينها حاول الشاباك إلصاق التهمة بمردخاي وكاد ينجح. كم كنا سذجاء حينذاك، قبل الانتفاضة الأولى، حينما كانت غزة تحت سيطرتنا الكاملة، وحماس تحبو، وإسرائيل حرصت على أن تنتهي كل عملية بقتل أو اعتقال المخربين. وماذا أخذنا من كل ذلك؟ هل اليوم أفضل؟ ليس حقاً.
إذن ما هو الجواب، ما هو الحل؟ ليتني أعرف. أحمد طيبي قال لي بعد الإعلان عن صفقة شاليط «إنكم لا تفهمون سوى لغة القوة. لسنا نحن فقط من لا يفهم إلا بالقوة، هم أيضا يفهمون بالقوة. الأمثلة كثيرة. حرب لبنان الثانية أسكتت حزب الله، «الرصاص المسكوب» قاد إلى هدنة موقتة في الجنوب. المشكلة هي أن في جانبنا من يرتبك. من ناحية، فعلاً لا نفهم إلا لغة القوة، من ناحية أرى يتعذر علينا استخدام القوة. وعندما نستخدمها، نسارع للتراجع. ومن ناحية ثالثة، وهناك ناحية ثالثة، لا نعرف كيف نعاند، الإصرار على موقفنا، وعدم التفاوض مع الإرهاب خصوصاً في مسألة المخطوفين. ولذلك فإن جلعاد شاليط، للأسف، ليس المخطوف الأخير. وكان بوسع "إسرائيل” تغيير الوضع. كانت فرصة وضاعت. ويصرّ مردخاي على أن «جلعاد كان على مسافة كيلومترين منا. ولا يعقل أن لا تتوفر معلومات استخبارية للجيش الإسرائيلي الكبير. وأن الشاباك أخفق، وأنه خلال «الرصاص المسكوب» لم يكن بالوسع تحقيق ذلك أو على الأقل جلب كمية كبيرة من قادة حماس أسرى وأوراق مساومة للضغط على حماس».
مردخاي محقّ. فهذا إحد الإخفاقات المقلقة. وفي رصيد المسؤولين سيقال إنهم لم يتهربوا. رئيس الشاباك السابق، يوفال ديسكين اعترف بهذا الإخفاق صراحة مع تسريحه. رئيس الأركان السابق غابي أشكنازي الذي ورث الملف عن سلفه داني حلوتس، اعترف علناً بأن "إسرائيل” لا تعرف مكان شاليط. ولكن ما أثار الغضب أكثر من أي شيء هو ما جرى في «الرصاص المسكوب» أواخر عهد إيهود أولمرت. أولمرت أراد الذهاب حتى النهاية. فعلاً. وحتى لو لم يكن كذلك أراد أن تظن حماس أن "إسرائيل” ذاهبة حتى النهاية. وآمن أولمرت أن حماس إذا ظنت أن الجيش الإسرائيلي ماضٍ نحو احتلال كل قطاع غزة والقضاء على كل القيادة هناك، قد تنشأ ظروف أخرى للإفراج عن شاليط خلال العملية. في النهاية المصلحة الوحيدة للجعبري ورفاقه هو البقاء أحياء. وماذا جرى؟ حدث أن وزير دفاع أولمرت، إيهود باراك، جلس للتباحث مع وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير في اليوم الثاني أو الثالث للعملية، وقبل بدء الخطوة البرية، وأطلق ذلك التصريح الذي لا يصدقه عقل بأن "إسرائيل” تفكر في وقف نار لـ 48 ساعة لخلق «ممر إنساني».
وذهب باراك حد القول بأن رأيه هذا هو رأي رئيس الأركان أشكنازي ورئيس الشاباك ديسكين. فوراً اتصل أولمرت بأشكنازي، يتميز غضباً، ورد أشكنازي بأنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع. وديسكين؟ الشيء نفسه. في النهاية وبشكل لم يسبق له مثيل، اضطر الناطق بلسان الجيش لإصدار تصحيح من رئيس الأركان بأن الجيش لا يفكر في وقف النار لـ«ممر إنساني». وبكلمات أخرى، الأمر نشأ في الذهن المحموم لوزير الدفاع. ولكن الضرر وقع. فخلال العملية التي استمرّت ثلاثة أسابيع اضطر أولمرت للنضال ضد باراك على كل خطوة إضافية على الأرض. في هذه المرحلة أيضاً كان رئيس الأركان يريد إنهاء القصة والخروج من القطاع، وأولمرت خضع. ولاحقاً تبين أن الفرصة ضاعت. أشكنازي نفسه اعترف بعد العملية بأن «غزة اهتزت. ودوي محركات الدبابات كان يسمع في مركز المدينة. وكان واضحاً أن خطوة أخرى وغزة تسقط» إذن لماذا لم يسقطوا غزة؟ طوال كل العملية تجنب مقاتلو حماس تقريباً الاصطدام بالجيش الإسرائيلي. وكانوا يعرفون السبب. من ناحية حماس لا تمتلك القدرة على مواجهة فعلية، جبهوية، مع الجيش. من ناحية أخرى، حماس تعرف أن أولمرت تعلم الدرس ولم يعلن عن استعادة شاليط كهدف من أهداف العملية، لكنه بالتأكيد يفكر في ذلك. ولهذا، كان الجهد موجهاً لمنع سقوط قادة حماس بأيدي الجيش الإسرائيلي، ببساطة عبر تجنب الاحتكاك. وقد نجحوا. أساساً بسبب انهزامية وزير الدفاع. وفق المعلومات الاستخبارية حينها، جلعاد شاليط كان محتجزاً في رفح. وعندما عرض أولمرت إدخال لواء إلى هناك ومحاولة هز الشجرة، على أمل أن يسقط شيء، واجه معارضة. انتهت عملية «الرصاص المسكوب» بنصر تكتيكي (خلقت ردعاً محدوداً) ولكن بهزيمة استراتيجية. شاليط، وهو الذخر الأكبر لحماس، بقي بأيدي آسريه. وواصلت "إسرائيل” التلوي، إلى أن خضعت هذا الأسبوع. رأيت، بعد خمس دقائق من الخضوع، عند انتهاء جلسة الحكومة، إيهود باراك مع حشد من حراسه ومستشاريه، يشق طريقه بين الجموع بعزم وإصرار إلى داخل خيمة عائلة شاليط. هرع إلى هناك ليكون أول سياسي تلتقط صوره مع هذه العائلة الأصيلة والجميلة. رأيت وأردت التقيؤ.
المصدر: جريدة السفير نقلاً عن معاريف