القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

شطب فلسطين بأيدي فلسطينية

شطب فلسطين بأيدي فلسطينية

إبراهيم عبدالله صرصور

لفت انتباهي مؤخرا الكم الهائل مما تتناقله وسائل الإعلام المختلفة من تصريحات لقادة حركة فتح وحكومتها في رام الله ابتداء من الرئيس أبو مازن، ولكن بشكل فاضح أكثر على ألسنة عدد كبير من شخصياتها البارزة، والتي تشير كلها إلى عمق كراهيتها لحركة حماس، وانحطاط تشفيها بها من خلال دعمها اللامحدود للانقلاب الدموي، وأسلوبها الاستعلائي الخبيث والذي جاء سافرا في لقاء لجريدة السفير اللبنانية مع عزام الأحمد حيث شكر كل ما ساهم في إسقاط حكم الأخوان في مصر، مستعملا أقذر الكلمات، وقل مثل ذلك في تآمر حركة فتح ضد حماس والتي كشفتها عشرات الوثائق الرسمية الصادرة من مسؤولين في الحركة لسفارة فلسطين في القاهرة هدفها الوقيعة الخسيسة بين مصر وحماس في قطاع غزة، وغير ذلك من المؤامرات التي سنفرد لها مقالة مستقلة …

( 1 )

تذكرت وأنا أتابع ذلك وأرقب الشعب الفلسطيني ومدى عمق الخلافات التي أنشبت أظفارها في جسد قضيته، كلماتٍ قالها الرئيس الراحل ياسر عرفات – رحمه الله رحمة واسعة – في أول لقاء لوفدِ الحركة الإسلامية معه بعد عودته من المنفى إلى أرض الوطن في العام 1993 … كان اللقاء في مكتبة بمدينة غزة … لم نلتق بأبي عمار قبل ذلك، وعليه فكان على كل واحد من أعضاء الوفد أن يضع لنفسه تصورا لهذا الرجل الآتي من بعيد أو من قريب، يجعله مدخله الشخصي للتعامل مع هذه الشخصية المثيرة … انتظرنا قليلا … أحسسنا بحركة غير عادية في الغرف المجاورة وفي الممرات المؤدية إلى قاعة الاجتماع .. ما هي إلا لحظات وظهر الرجل الذي كثيرا ما سمعنا عنه وقرأنا عنه، وتابعنا أخباره مع كل فصل من فصول القضية الفلسطينية …

مع أول كلمة نطق بها ظهر أمامنا شخص يختلف عن الصورة التي وضعناها له في أذهاننا … لم نر فيه وفي كلامه إلا كتلة من الألم والحزن الممزوجة بالأمل الحذِر جدا مما يخبؤه الزمان، سواء كان ذلك لأسباب خارجية تتعلق بإسرائيل والتوازنات الدولية، أو لأسباب داخلية ترتبط بطبيعة الخريطة السياسية الفلسطينية والتجاذبات الفوقية أو التحتية التي تحركها في مختلف الاتجاهات ….

فتح أمامنا جاروره الشخصي واخرج علبا كثيرة لأدوية يأخذها بسبب أمراض يعاني منها … لعله أراد بذلك أن يجسد حالة الوجع المعنوي الذي يعاني منه بسبب ما قطعته القضية وأصحابها من مشوار آلام بدأت ولم تنته، حفرت على جسده المعتل من الخطوط البطولية ما لا يخفى على احد … بادرنا بالسؤال قبل أن نسأل … قال : تسألون، وحُقَّ لكم أن تسألوا … ما الذي جاء بك إلى هنا، وما الضمانات التي تكفل نجاح مهمتك في استرجاع الحقوق المغتصبة وتحقيق الأماني الوطنية ؟؟؟!! ثم أجاب بطريقته التي أصبحت بعد ذلك معهودة لنا وقد التقينا به بعدها عشرات المرات … : " الذي جاء بي إلى هنا … إلى هذا الموقع على شاطئ غزة، وأنا أعلم أن هؤلاء الإسرائيليون أل- ( ……….. )، يرصدونني جوا وبحرا وبرا، ويملكون أرضي وبحري وسمائي المقدسة … جئت لأنني نظرت في حال شعبنا على مدى مئة عام تقريبا … قُدْتُ مسيرته عبر طرق آلام الدنيا، وعبرت به بوابات جهنم الأشقاء قبل الأعداء منذ أكثر من ثلاثين عاما … رأيت بأم عيني كيف شطب العالم الظالم أرقاما لأقليات أكثر منا مالا وأكثر عددا … شُطِبُوا من قاموس العالم وعلاقاته وتوازناته وحساباته، حتى ما عاد لهم وجود، ولا ذكر … لا لأنهم غابوا عن الدنيا حتى أصبحوا أثرا بعد عين … لا … فهم موجودون وبالملايين … إلا أن وجودهم وحقوقهم تساوي صفر، لأن دول الاستكبار العالمي قررت ذلك … ولا راد لقضائها … " … سألنا : وهل تخشى أن يصيب فلسطين وشعبها ما أصاب تلك الأقليات …" … أجاب بثقة راسخة : " نعم وبالتأكيد … ولم لا يكون ذلك في ظل ما ترونه من سقوط عربي مريع …." … كان يعني طبعا أزمة احتلال العراق للكويت وما جره ذلك الاحتلال من كوارث ما زلنا نتجرع كؤوسها المترعة علقما حتى هذه اللحظة ….

( 2 )

قلنا : " مع ذلك فالقضية الفلسطينية تختلف من عدة وجوه … فهي قضية فلسطين الأرض والمقدسات وعلى رأسها القدس والمسجد الأقصى، والتي يرى فيها مليار مسلم حول العالم مهوى القلوب، ومستقر الأرواح والقبلة الأولى وأرض المحشر والمنشر… وإلى جانب ذلك وليس قبله أو فوقه … قرارات الشرعية الدولية منذ عشرينات القرن ( كنا يومها في القرن العشرين، وأصبحنا اليوم في القرن الواحد والعشرين، فأرجو الانتباه ) وحتى اللحظة، وكلها مؤيدة للحق الفلسطيني والعربي، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه الحقوق بعز عزيز أو بذل ذليل ….. " ….

قال : " نعم … لكنني لا أثق في العالم ولا في ضميره … وحالُ الأمة العربية والإسلامية لا يخفى عليكم … وعليه فلا مكان للمجازفة أو المخاطرة … فما كان أمامنا إلا أن نعمل على تحويل الحلم التي تحويه الأوراق المركونة على رفوف المؤسسات الدولية إلى حقيقة واقعة … كان لا بد من أن نُؤَمِّنَ موطئا لقدم الفلسطيني على جغرافيا اسمها فلسطين حتى لو بدأناها بقطعة منها على أن تكون هذه خطوة على طريق التحرير الكامل للتراب الوطني الفلسطيني …. وكان لا بد معها إلى ربط هذه الجغرافيا التي اسمها فلسطين بشعب اسمه الشعب الفلسطيني، حتى لو بدأنا بجزء من الشعب الفلسطيني على أن تكون هذه خطوة على طريق عودة كل اللاجئين إلى ديارهم ووطنهم … كان لا بد من تحويل الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينيتين إلى رقم صعب وواقع معاش تدعمه إرادة دولية وعربية لا يكمن لها إلا أن تعترف رغما عن انفها بوجودهما، لا على الورق ولكن من خلال الواقع …." …..

( 3 )

هذا الحوار ليس خيالا كما يبدو لأول وهلة … لقد جرت أحداثه يومها، وإن صغته بكلماتي من خلال ما وعيته من تفاصيل ذلك الحديث الذي لن أنساه، سقته بسبب ارتباطه بواقع القضية الفلسطينية اليوم بعد مرور أكثر من عشرين عاما عليه … مهما قيل في اتفاقية اوسلو ومهما اختلف الناس أو اتفقوا حولها، سيبقى السؤال : هل هنالك ما يشير إلى أن الشعب الفلسطيني واع تماما للنتائج الوخيمة لممارساته على الأرض الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة … وهل يمكن أن نتجاهل احتمالا مهما كان مستبعدا يمكن أن يؤدي في النهاية إلى شطب الرقم الفلسطيني من قاموس الفعل الدولي والعربي مهما كان ضعيفا، إذا ما استمرت الأحوال على ما هي عليه اليوم ؟؟!!!

( 4 )

لنكن صرحاء إلى أبعد حد، فما عاد هنالك مكان للسكوت أو لتجاهل الكوارث القادمة التي لا أستبعد أن تكون قاصمةً للظهر هذه المرة … إن القراءة المتأنية والمسؤولة للمشهد الفلسطيني لا بد أن تضعنا أمام واقع ينذر بخطر كبير وشر مستطير …. إن الخلاف الناشب اليوم بين جناحي الوطن السليب يجعل من الأفق الحقيقي لقيام الدولة الفلسطينية يتلاشى يومًا بعد يوم.

أسباب ذلك كثيرة، فإسرائيل من جهة استغلت هذا الوضع المتشابك على الأرض الفلسطينية لتُسَرَّع في تنفيذ خططها الرامية إلى اغتيال الحق الفلسطيني، لا تفرق في تنفيذها لهذه السياسة بين فتح أو حماس، ولا بين متطرف أو معتدل ولا بين يمين أو يسار … الأرض الفلسطينية هي الهدف، والشعب الفلسطيني كله هو المستهدف … ما يفرضه الاحتلال من حقائق مخيفة ورهيبة على الأرض أكبر دليل على ما نشير إلية … والأخطر من ذلك هو نجاح "إسرائيل" في إتمام مشروعها التصفوي للقضية الفلسطينية في ظل انطباع بدأ يجتاح العالم من أن الشعب الفلسطيني ليس أهلا لبناء دولة، حتى ذهب بعض المستهترين من قادة العالم وصناع القرار فيه إلى الدعوة لاستحداث انتداب جديد يليق بمقام الشعب الفلسطيني الذي فقد أهليته على خلفية الصراع المستعر بين فصائلة وقواه الكبرى ….

المستوطنات التي تتسع يوما بعد يوم، والمستوطنون الذي أقاموا لهم دولة لا قِبَلَ لأحد من الساسة الإسرائيليين بها، أو بشكل أدق أصبحوا جزءا منها حيث ضمت أحزابُ اليمينِ المتطرفِ حكومةَ نتنياهو الحالية إليها وليس العكس … الجدار الذَي يتم بناؤه رغم انف القرارات الدولية، والطرق الالتفافية التي تشق جسد فلسطين طولا وعرضا دون رحمة، المساحات الخضراء ومعسكرات الجيش التي تُحْكِمُ قبضتها على نسبة عالية من مساحة الضفة المحتلة، وتهويد القدس الشريف وتهديد الأقصى المبارك، وسياسة الخنق والمداهمات والاعتقال والتجويع والقتل والاغتيال والهدم والتخريب …

كل ذلك لا بد له أن يدق ناقوس الخطر عند الفرقاء الفلسطينيين، فيتجاوزوا أزماتهم الحالية قبل أن يفوت الأوان وقبل أن يأتي الطوفان، فيتحقق لإسرائيل ما كانت تحلم به من شطب للرقم الفلسطيني ولكن بأيدي فلسطينية.

رأي اليوم، لندن، 11/10/2013