شهداء العودة... حاضرون رغم الغياب
بقلم: طارق حمود
لم تكن ذكرى النكبة عام 2011 حدثاً عابراً في حياة اللاجئين الفلسطينيين عموماً، واللاجئين الفلسطينيين في سورية ولبنان خصوصاً؛ فهي الذكرى التي أحيوها بخلاف التقليد السنوي. كانت ثلة من شباب المخيمات الذين عاشوا على ذكرى وصورة ومفتاح يأكله الصدأ، لكنهم يزدادون صلابة على موعد مع التاريخ الذي سجل أسماءهم على الشريط الشائك الحدودي، ليمثلوا لنا رمزاً للعودة في ذاكرتنا نحن اللاجئين.
كان من الصعب جداً أن تمرّ ذكرى النكبة لهذا العام من دون أن نستحضر صورة عماد أبو شقرا، ابن مخيم عين الحلوة ابن السابعة عشرة، وهو يرفع العلم، مخترقاً شريطاً شائكاً من دون أن توقفه رصاصات الحقد الصهيوني التي أدمته، لكنها لم توقفه عن متابعة طريقه نحو أرضه التي طالما حلم بها وحلم بأن يغرس فيها علم فلسطين. وكان ما تمنى، ليكون العلم خلف الشريط هو آخر عهده بالدنيا، فيودع الأم والأخت والصديق الذي شاركه مسيرة العودة، معلناً أنه أول العائدين إلى فلسطين، فكانت العودة التي اختار طريقها بعيداً عن دروب التفاوض والمساومة. كان الثمن غالياً، لكن المبيع كان أغلى. هكذا أعلنها عماد وصحبه أبناء مخيمات صيدا وصور محمود سالم ومحمد صالح وعبد الرحمن صبحي ومحمد أبو شليح، وكذلك خليل أحمد من بعلبك. كان شهداء مارون الراس على حدود الوطن في لبنان على موعد مع إخوانهم أبناء المخيمات في سورية، الذين التقوا على الحدود ذاتها كلٌّ من جهة مخيمه، وعلى غير اتفاق ومن دون تخطيط كان القرار واحداً لأولئك الشباب، قرارهم بالعودة مهما كان الثمن؛ فكان قيس أبو الهيجا الذي جاء من مخيمات الأردن خصيصاً ليشارك في مسيرة العودة من سورية وليعلن أن العودة باتت أقرب إلى المنال.
وكان عبيدة زغموت ابن مخيم اليرموك الذي قدم من الإمارات العربية المتحدة ململماً كل أغراضه وكأنه على علم بأنه لن يعود إلى دول النفط أبداً بعد أن يرى فلسطين وجهاً لوجه. وكان بشار الشهابي قد أعد نفسه ليكون هو الآخر في عداد العائدين إلى فلسطين عبر مجدل شمس في الجولان الذي عاش مع أبنائه في الحجر الأسود في دمشق وشاركهم الهم والمصير. كانت مارون الراس في لبنان وعين التينة في سورية بوابتين إلى السماء ارتقى منهما خيرة أبناء المخيمات الذين ملوا من حياة اللجوء، وكانوا طريقاً معبداً ليعبر من بعدهم أكثر من 29 شهيداً في 5 حزيران 2011م في عين التينة. لم يحتملوا البقاء في مخيماتهم بعد أن قتلهم الشوق لمن سبقهم، وقد لا يتسع هذا المقال لذكر أسمائهم التي قد تحتاج إلى مجلدات لتخليدها.
إن المدخل العاطفي لهذا المقال لم يأتِ في سياقٍ أدبي لنرثي به شهيداً أو نخلد به موقفاً، وإنما هو جزء من الشعور لمن وقفنا معهم في المكان نفسه، فعادوا ولم نعد، وإعادة إنتاج للذاكرة التي لم تغب عنا منذ أكثر من عام لحادثة لم يعطها إعلامنا حقها، بل أدخلها في متاهات الجدل، وهي محاولة للقول إن قصص البطولة لم تنتهِ، وإنما ها هي مستمرةٌ وتستمر والمطلوب فقط أن نعطي أنفسنا فرصة إنجازها. مسيرة العودة في 2011 لم تكن حدثاً منبتاً حصل في مكانٍ وزمانٍ ما وانقضى بشهداء وجرحى في مشهد لا يستغربه الفلسطينيون. لقد كانت المسيرة تعبيراً حقيقياً عن إرادة الشباب الفلسطيني الذي أعلن الدعوة أولاً عبر الصفحات الاجتماعية على الإنترنت، من دون أن يلقي لها أياً من عتقاء الثورة أي بالٍ. فالثورة في نظر بعضهم انقضت بانقضاء عمرهم وشبابهم، بل تحولت تلك الدعوة التي التفّ حولها عشرات ومئات الآلاف إلى حقيقة فرضت نفسها على كل الأطر الفلسطينية فصائل وفعاليات ومؤسسات ونشطاء، لتجد لنفسها مكاناً في أولويات العمل الوطني في ذكرى النكبة عام 2011م بعد أن استطاعت أن تتحول إلى دعوة رأي عام، لم يكن بالإمكان أبداً لكائن من كان أن يتجاوز تلك الدعوة للسير نحو حدود الوطن، فعبرت الدعوة الحدود للتحول إلى فعالية إقليمية قلما يحدث تنسيق بهذا المستوى لتنفيذها.
اليوم، بعد مرور عام على الذكرى التي مثلت في السنوات الأخيرة أول مبادرة شبابية فلسطينية تفرض نفسها بهذا الحجم على الهياكل الفلسطينية كافة، نجد أن التفاعل الرسمي معها كان دون المستوى، واقتصر على فعاليات شبابية بجهود ذاتية، وجرحى المسيرة لا يزالون حتى اللحظة يتفاعلون مع الذكرى إما علاجاً أو ألماً، ومنهم من أقعدته رصاصات الاحتلال عن العمل وقوت يومه. لا يمكن أن نتصور مرور ذكرى الشهداء في عامهم الأول من دون أن نرد لهم شيئاً مما قدموه، وليس من الإنصاف أن نتعامل مع مسيرة العودة كحدث انقضى بكل ما فيه، وهو الذي أعطانا أملاً افتقدناه منذ أيام انتفاضة الأقصى. وليس وفاءً أن تكون ذكرى النكبة لعام 2012م بعيدة عن ذكراهم؛ فطوال سنوات انقضت، كانت ذكرى النكبة تجسّد مشاهد نفسية ومعنوية وعاطفية في حياتنا نحن اللاجئين، وكانت ذكرى 2011م أول ذكرى منذ سنوات طويلة تعيد صياغة نفسها على أنها إرادة شعب مستعد لتقديم الغالي والنفيس من أجلها، ذكرى النكبة ما بعد 2011 يجب أن تتحول في فهمنا ووعينا إلى قضية واقعية بإمكاننا أن نوجد لها آليات تحقيق هدفها من دون أن تلغينا الظروف ومن دون أن نلغيها أيضاً، بل ربما كنا في مرحلة ظرفية أفضل مما سبق بعد تغير المشهد الإقليمي لغير مصلحة الاحتلال.
ختاماً، هي دعوة لنا أولاً ولكل العاملين في الحقل الوطني، لأن لا نضيع فرصة استحضار النكبة بلونها الحقيقي الذي أعاده إلى الواجهة شهداء 15 أيار 2011 ، وإننا أمام مسؤولية تحتم علينا النظر للقضية الفلسطينية كما يريدها أبناؤها من بحرها إلى نهرها، لا كما يريدها واقع لا يريد البعض أن يرى أنه تغير.
المصدر: واجب