القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

عرفات والتجربة اللبنانية: تحديات ومصاعب وإنجازات

عرفات والتجربة اللبنانية: تحديات ومصاعب وإنجازات

بقلم: صقر أبو فخر *

يمكن اعتبار سنة 1968 سنة البدايات للعمل الفدائي الفلسطيني في لبنان، ففي تلك السنة بدأت تظهر في منطقة العرقوب الجنوبية أولى القواعد العسكرية. لكن العمل الفدائي لم يكتسب شرعيته القانونية إلا في سنة 1969 حين جرى توقيع اتفاقية القاهرة بين ياسر عرفات كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإميل البستاني كقائد للجيش اللبناني. والتجربة العسكرية الفلسطينية في لبنان، علاوة على التجربة السياسية والاعلامية، لم تعش أكثر من اثنتي عشرة سنة انتهت بالخروج الكبير في سنة 1982. وهي تجربة فيها كثير من الملابسات، وخالطتها أسرار متشعبة لم تُكشف جميع أسرارها حتى اليوم.

من عمان إلى بيروت

بعد الخروج من الأردن في صيف سنة 1970 اتخذ ياسر عرفات مقره الرسمي في دمشق، لكن مقره الفعلي كان في بيروت. أما الجسم العسكري للمقاومة الفلسطينية فقد تركز في منطقة العرقوب في الجنوب اللبناني وعند منحدرات جبل الشيخ، ثم راح يتمدد تدريجاً على طول الحدود مع اسرائيل. وقد كانت المرحلة اللبنانية أكثر مراحل الثورة الفلسطينية إيلاماً وانجازات في الوقت نفسه.

أول ما واجهه ياسر عرفات هو الميل العربي الى الاعتدال بعد سنة 1970. ففي سوريا، وبعد تسلم حافظ الأسد السلطة التي دانت له تماماً، قبلت سوريا القرار 242. وفي العراق أزيح كل من حردان عبد الغفار التكريتي وعبد الخالق السامرائي المؤيد للفدائيين بقوة وصالح مهدي عماش وعبد الكريم الشيخلي وحماد شهاب وسعدون غيدان ثم ناظم الكزار، وانفرد الثنائي أحمد حسن البكر (الذي كان يكره ياسر عرفات) وصدام حسين بالسلطة. وفي مصر لم يلبث الرئيس أنور السادات أن أطاح خصومه في أيار (مايو) 1971 وزجهم في السجن أمثال علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف.

كان ياسر عرفات يخشى تكرار التجربة الأردنية في لبنان، فسعى الى التفاهم مع الجميع يميناً ويساراً. لكن حلفه الأساسي ترسخ مع كمال جنبلاط ومع الحركة الوطنية اللبنانية. وكان لكمال جنبلاط مكانة خاصة لدى ياسر عرفات، فلم يرفض له طلباً على الرغم من بعض الاختلافات في النهج السياسي. كان ياسر عرفات، بين 1970 و1976، يحتاج الى كمال جنبلاط والحركة الوطنية اللبنانية لتأمين غطاء سياسي له في لبنان. لكن، منذ سنة 1976 فصاعداً صار كمال جنبلاط هو من يحتاج الى ياسر عرفات لمواجهة سوريا واليمين اللبناني المتمثل آنذاك بـ"الجبهة اللبنانية".

تمكن عرفات، وبسرعة، من انتزاع شرعية لوجوده في لبنان فوق ما منحته إياه اتفاقية القاهرة الموقعة في 3/11/1969. ففي 30/9/1971 زار القصر الجمهوري اللبناني، والتقى الملك فيصل بن عبد العزيز الذي كان يزور لبنان آنذاك، والرئيس سليمان فرنجية، وبحث معهما عدة شؤون منها الوساطة السعودية ـ المصرية لتسوية الخلاف مع الأردن، فضلاً عن بعض القضايا ذات الصلة بالفدائيين في لبنان. ومن مقره في منطقة الفاكهاني في بيروت أدار السياسة الفلسطينية والعمل العسكري الفلسطيني معاً. وكانت اجتماعاته الليلية لا تنتهي إلا عند الفجر.

كانت السياسات العربية تميل، على العموم، الى الاعتدال النسبي، وكانت السياسة الفلسطينية تخالف هذا الميل، وتتوسل نهج الكفاح المسلح والعنف الثوري. هذا الأمر أرغم عرفات على اختيار خط السير المتعرج كمن يسير في حقل من الألغام.

كان أول تحدٍ لياسر عرفات هو كيف يحمي، في بيئة شبه معادية ونصف صديقة، أمن المقاومة ومؤسساتها، وأمن القادة الفلسطينيين، ويواصل الكفاح المسلح، ويمارس العمل السياسي في الاطار العربي، والعمل الاعلامي والسياسي في النطاق الدولي، وأن تصب هذه الروافد كلها في مجرى واحد هو حركة التحرر الوطني؟ وقد تمكن ببراعة فائقة من إقامة علائق قوية مع الاتحاد السوفياتي ودول المنظمة الاشتراكية، وأن يحافظ على علاقاته الوثقى بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج في الوقت نفسه.

في هذه الأثناء كانت اسرائيل تغتال غسان كنفاني في منطقة الحازمية شرقي بيروت في 8/7/1972، وترسل طرداً ملغوماً لينفجر بين يدي أنيس صايغ في 19/7/1972، وترسل طرداً ثانياً لينفجر بين يدي بسام أبو شريف رئيس تحرير مجلة "الهدف" في 25/7/1972، وتغتال وائل زعيتر في روما في 16/10/1972، وتطلق النار على محمود الهمشري في باريس في 8/12/1972 ليتوفى في 9/1/1973، وتغتال باسل كبيسي في باريس أيضاً في 6/4/1973. وكانت الذروة في 10/4/1973 عندما تسلل فريق من الكوماندوس الاسرائيلي بقيادة ايهود باراك الى بيروت، وتمكن، بتسهيل من عناصر داخلية لبنانية من اغتيال كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر. هذه الحادثة أدخلت الوضع اللبناني في مشكلات سياسية وأمنية متفاعلة، ومهدت السبيل للانفجار اللاحق في أيار (مايو) 1973.

لم يذعن ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية لهذه المخاطر البتة. فقامت حركة "فتح" بممارسة الحرب المضادة السرية ضد "الموساد" الاسرائيلي، وتمكنت من قتل تساودك عوفير في بروكسل في 10/9/1972، وهو ديبلوماسي وعضو في "الموساد"، وقتلت موشيه حنان يشاي في مدريد في 26/1/1973، وأردت سيمحا غليتزر في قبرص في 12/3/1973، ويوسف ألون في واشنطن في 1/7/1973، وعامي تساحوري في أمستردام في 10/9/1973.

الانفجار

سار في جنازة القادة الثلاثة كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر نحو 250 ألف شخص بحسب تقديرات تلك المرحلة، وكان الفلسطينيون آنذاك لا يستطيعون حشد أكثر من خمسين ألفاً في أقصى امكاناتهم. وهذا يعني أن الأغلبية الساحقة من المشاركين كانت من اللبنانيين. وقد لفت هذا الأمر الأجهزة الأمنية والعسكرية في لبنان، ومحطات المخابرات الأجنبية في بيروت، ولاحظ الجميع أن المقاومة الفلسطينية باتت قوة كبيرة، بل قوة سياسية لبنانية يحسب لها الحساب. وكان أن انفجر القتال في 2/5/1973 بين الجيش اللبناني والفدائيين.

وقد كان المقصود شل فاعلية المقاومة تماماً، وإخضاعها للقواعد الأمنية اللبنانية، وإن تيسرّ الأمر، فالقضاء عليها على الطريقة الأردنية. وبالطبع لم يتمكن الجيش من اقتحام المخيمات، وتلقى الرئيس اللبناني سليمان فرنجية إنذاراً من الرئيس أنور السادات، وإنذاراً آخر من الرئيس حافظ الأسد الذي اتبع انذاره بإغلاق الحدود السورية ـ اللبنانية. وعند ذاك توقف القتال، وخرج الفدائيون من هذه المعركة بفوز سياسي.

استثمر ياسر عرفات نتائج أحداث أيار 1973 لتعزيز مكانته السياسية. وهذه المكانة أتاحت له المشاركة في الحرب التي نشبت في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973 بين جيشي مصر وسوريا من جهة والجيش الاسرائيلي من الجهة المقابلة. وفور اندلاع المعارك أصدر عرفات أوامره الى قوات حطين التابعة لجيش التحرير الفلسطيني في سوريا، وإلى قوات عين جالوت في مصر بالانخراط في الحرب الى جانب الجيشين المصري والسوري. وفي جنوب لبنان قامت قواعد الفدائيين بقصف مواقع للجيش الاسرائيلي، ونفذت عمليات إغارة وإعاقة لتقدم الوحدات الاسرائيلية نحو الجولان السوري.

ساهمت مشاركة قوات الثورة الفسطينية في حرب تشرين الأول (اكتوبر) 1973 في انتزاع مكانة عربية خاصة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وصار ياسر عرفات لاعباً أساسياً في سياسات المنطقة. وفي هذا الميدان كوفئ عرفات في مؤتمر القمة العربية السابعة المنعقد في الرباط في 26/10/1974 باتخاذ المؤتمر قراراً يعترف فيه بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، ثم جاء اعتراف منظمة الوحدة الافريقية ومؤتمر دول عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الدولي أيضاً. ثم وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1974، وبأغلبية 110 دول، على قبول منظمة التحرير الفلسطينية عضواً مراقباً لديها، ما أفسح في المجال أمام عرفات لإلقاء كلمة فلسطين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

في 13/11/1974 وقف ياسر عرفات أمام ممثلي دول العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإلى جانب الكرسي الأصفر المخصص للرؤساء تلقى عاصفة من التصفيق لم تتح لغيره على الاطلاق. ومن على منصة الخطابة ألقى أبو عمار خطبة بليغة ختمها بالقول: "جئتكم ثائراً أحمل غصن الزيتون بيد والبندقية في اليد الاخرى. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". وحينما استمع ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي الى خطبة عرفات قال: "لقد أيقظ ياسر عرفات في داخلي تاريخاً من غياب الوعي، وجعلني أشعر بأنه ما زال ممكناً أن تلد أرض فلسطين الأنبياء".

لم تكن الأرض السياسية ممهدة أو معبدة تحت أقدام عرفات ورفاقه حينما تمكن رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" من تحقيق هذه الانجازات. فمنذ أن أقرّ المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر المنعقد في القاهرة في 1/6/1974 وثيقة البرنامج المرحلي المعروفة ببرنامج النقاط العشر الذي يتضمن فكرة الدولة الفلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى شرع البعض في إقامة العوائق في وجه ياسر عرفات وحركة "فتح". فدعم النظام العراقي مجموعة صبري البنا (أبونضال) في انشقاقه على "فتح" ثم في تنكيله بكثير من كوادر الحركة بالقتل اغتيالاً. وفي 29/9/1974 أُعلن عن تأسيس "جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية" المعروفة باسم "جبهة الرفض" اختصاراً، والتي تلقت دعماً كبيراً من العراق. وفي الوقت نفسه كانت اسرائيل تخطط لإجهاض أو تحطيم الموقع الذي احتلته "منظمة التحرير الفلسطينية" بقيادة عرفات، خاصة أن العمليات العسكرية الفلسطينية ضدها باتت أكثر تطوراً وفاعلية.

لم تكن الولايات المتحدة لتقبل مثل هذه التطورات في الشرق الأوسط بعد انسحابها من فيتنام عام 1975. لذلك راح وزير خارجيتها هنري كيسنجر، الذي تمكن في جولاته المكوكية، من فك الاشتباك بين الجيش المصري والجيش الاسرائيلي عام 1974، ونجح في جر مصر الى توقيع اتفاقية سيناء في سنة 1975 التي كانت تمهد لإعادة افتتاح قناة السويس أمام الملاحة الدولية التي افتتحت مجدداً في 5/6/1975 يعد الخطط لإغراق الثورة الفلسطينية في الوحول اللبنانية، فنجح في تفجير صاعق الحرب الأهلية اللبنانية في سنة 1975 التي لم تتوقف إلا في سنة 1990.

كان ياسر عرفات يخشى انفجار التناقضات اللبنانية في وجهه، بينما كان كمال جنبلاط زعيم الحركة الوطنية اللبنانية يسعى الى كسر المعادلة اللبنانية وتغييرها.

في خضم التعقيدات السياسية والعسكرية التي خلقتها الحرب الأهلية، صار عرفات لاعباً في السياسة المحلية اللبنانية، وهو الأمر الذي لم يكن يريده، بل وجد نفسه غارقاً فيه.

تدخلت سوريا بجيشها، وتدخلت اسرائيل، وجاء اغتيال كمال جنبلاط في 16/3/1977 ليصيب ياسر عرفات بخسارة هائلة، وقبل ذلك سقط مخيم تل الزعتر.

لكن زيارة انور السادات الى القدس في 19/11/1977 وتصاعد القتال في لبنان، أديا الى اعادة تحالفه مع سوريا، ما أسس لتحالفات جديدة في المنطقة العربية بأسرها.

لم تكد المقاومة الفلسطينية تتوازن قليلاً بعد اغتيال كمال جنبلاط وبعد التفاهم مع سوريا حتى كانت اسرائيل تحتل جزءاً من جنوب لبنان في آذار 1978، وتنشئ ما أسمته "الحزام الأمني". وهكذا صارت الحدود مع اسرائيل بعيدة، وتقلص نطاق العمليات الفدائية ضد اسرائيل.

بين سنة 1980 و1982 تهتكت الأوضاع اللبنانية كثيراً، وأنهك المجتمع اللبناني والمقاومة الفلسطينية معاً، وسقط الجميع في شباك القتل اليومي من دون أي نتيجة سياسية. واضطر عرفات الى ادارة الشؤون اليومية بطرق تجريبية لم يختبرها من قبل. وانكشف الوضع اللبناني على شتى الممارسات، وصار مرتعاً لأجهزة الاستخبارات في العالم، وتقاسمته مجموعة من اللاعبين المتصارعين بلا هوادة وبلا أي هدف ممكن.

استمر الوضع على حاله من التدهور والتفتت والانحلال حتى وقوع الاجتياح الاسرائيلي في الخامس من حزيران (يونيو) 1982.

*كاتب وباحث في الشؤون الفلسطينية والمشرف على ملحق "فلسطين" الذي يصدر عن جريدة "السفير".

المصدر: المستقبل