غزّة: إعلان وقف نار لا يحققه
المصريون
بقلم: حلمي موسى
شكل أمر وقف إطلاق النار بؤرة الجدال
في الأيام الثلاثة الأخيرة من حرب «الجرف الصامد» بعدما بدا أن الخيارات الأخرى
المتاحة مكلفة ولن تحقق الهدف المرجو. فالعملية البرية التي كثر الحديث عنها صارت
أقرب إلى نوع من التحشيد بقصد التهديد أكثر مما هي عملية عسكرية ذات أغراض واضحة.
وامتلأت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالخبراء الذين يتحدثون عن انعدام جدواها في
الظروف القائمة. فمثل هذه العملية ينبغي أن تكون شاملة وتتضمّن إعادة احتلال كل
قطاع غزة حتى تحقق أغراضها وإن كانت كذلك فهي مكلفة وتحتاج إلى وقت كثير لتنفيذها.
وحتى عند الحديث عن العملية الشاملة،
ثار الخلاف حول ما بعد ذلك. فتجربة إسرائيل مع حكم حركة «فتح» للقطاع لم تكن
مجزية. وقادت تلك التجربة أولاً إلى أعنف هجمات عسكرية دمرت البنى التحتية للقطاع،
وبعد ذلك إلى خطة الانفصال عن غزة من ناحية أخرى في ظل تزايد أعمال المقاومة وعجز
السلطة عن فرض هيبتها. وعندما تولت حركة «حماس» الحكم، وبعدما أخفقت تدابير الحصار
في خنقها، صارت إسرائيل، خصوصاً بعد نجاح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في استعادة
الحكم، ترى في سيطرة «حماس» في القطاع ورقة رابحة، وإن كانت مزعجة. فـ«حماس» أفلحت
في فرض سيطرتها على كل القوى الأخرى في القطاع وصارت عنواناً رئيساً يمكن ضربه إذا
اقتضى الأمر، خصوصاً عند الانزعاج من قوى أخرى. كما أفادت هذه السيطرة في منع
التقدم بالمفاوضات مع السلطة الفلسطينية في رام الله من خلال الادعاء طوال الوقت
بأن الرئيس محمود عباس لا يمثل كل الفلسطينيين. وربما أن هذا يقف جوهرياً خلف رفض
إسرائيل لحكومة الوفاق الوطني التي أنهت واقع الحكومتين والسلطتين.
وكان الخيار الثاني هو التصعيد من
الجو والذي صار يعني الاقتراب أكثر من منطقة إلحاق أشد خطر بالمدنيين. وقد مهّدت
إسرائيل لذلك بالحديث المطول عن مخازن الصواريخ في المستشفيات وتحت الأبراج
السكنية في أنفاق أعدت جيداً. وأرفقت هذا الحديث بنوع من التحذير باللجوء إلى
«عقيدة الضاحية» والتي تعني تدمير أحياء بكاملها بعد إخراج سكانها منها. ولكن
محدودية مساحة القطاع وكثافة السكان فيه لا تسمح بتهجير مناطق على نطاق واسع. وكل
ما يمكن فعله هو تهجير الأطراف إلى المركز في وقت يكاد يكون فيه كل قطاع غزة من
شماله إلى جنوبه مركزاً سكانياً واحداً. ولا مهرب للناس في غزة، والحال هذه، سوى
مصر التي لإسرائيل «معاهدة سلام» معها.
وأمام هذا الواقع تزايدت في الأيام
الأخيرة النقاشات بشأن وجوب إعلان وقف إطلاق النار، إما بترتيب وإما من طرف واحد.
وكان النقاش داخل الحكومة والمجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر يتركز حول المكاسب
والخسائر. وكانت هناك مدرستان، واحدة ترى أن ترتيب أمر اتفاق لوقف النار يعني
إيجاد طرف ثالث يمكنه أن يشكل ضغطاً على المقاومة في غزة وضامناً للاتفاق.
والثانية ترفض أي اتفاق وتنادي بوقف لإطلاق النار من طرف واحد والتصرف لاحقاً وفق
المعطيات الميدانية.
وفي هذه الأجواء بدأ التحرك الغربي
بحثٍّ أميركي من أجل ترتيب اتفاق لوقف إطلاق النار. وكان معروفاً أن الجهة الوحيدة
التي يمكن أن تكون مقبولة من الطرفين والتي لها تجربة في بلورة اتفاقيات سابقة بين
المقاومة وإسرائيل هي مصر لأسباب جيو ـ استراتيجية. ولكن مصر هذه المرة كانت
مختلفة عن السابق، فهي ليست فقط مشغولة بنفسها وإنما باتت على عداء مع حركة «حماس»
كجزء من المعركة التي تخوضها ضد حركة «الإخوان المسلمين». وهناك في «حماس» من بات
ينظر بريبة إلى كل ما يصدر عن مصر وله دخل بقطاع غزة. ويستند هؤلاء إلى المواقف
المصرية الرسمية والتي تعاملت مع «حماس» بتجاهل وعداء من ناحية وإلى الحملة
الإعلامية شبه الرسمية التي دفعت نائب رئيس صحيفة «الأهرام» في ظل الحرب للدعاء
بأن «يكثر الله من أمثال نتنياهو».
ولذلك فإن موقف حركة «حماس» من
المبادرة المصرية كان متشككاً من اللحظة الأولى ومنفعلاً بعدما تبين لها أنّ
المبادرة تمّت من دون أي اتصالات فعلية معها. ويعتقد بعض المراقبين أن جانباً من
موقف «حماس» يعود إلى نوع من الانفصال بين مواقف القيادة في الخارج والقيادة في
الداخل. وبتعبير محلي، فإنّ «القسام أغلق الهواتف» في غزة ولم يعد يستمع إلا
لمعطيات الميدان التي يحدّدها بنفسه عبر التنسيق مع «الجهاد الإسلامي» على الأرض.
وهذا يعني أن تواصل الاستخبارات المصرية مع عضو المكتب السياسي لـ«حماس» موسى أبو
مرزوق قد لا يكون وصل إلى المستويات العسكرية في غزة، هذا إذا كان قد تمّ أصلاً.
فقد نشر أبو مرزوق في صفحته على موقع
التواصل الاجتماعي «تويتر» تغريدة تفيد بأن «حماس» لا تزال تتدارس الموقف بشأن
المبادرة المصرية. وبديهي أن هذا الكلام يعني أنه إذا كان لم يرفض المبادرة فعلى
الأقل لم يقبل بها حتى وقت هذه التغريدة. والواقع أن سلوك «حركة الجهاد الإسلامي»
التي لا عداء من جانب مصر لها ينم أيضاً عن عدم تنسيق مسبق بشأن المبادرة.
فالحركة، وعلى لسان أمينها العام رمضان شلح كانت حتى اللحظة الأخيرة تؤكد أن مصر
هي صاحبة الدور الحاسم في أي وساطة. لكنها مع ذلك اتخذت موقفاً قريباً جداً من
موقف «حماس» ما يعبر، ربما، عن عدم تنسيق المصريين معهم.
وما زاد الطين بلة لدى المقاومة
علمها بأن المبادرة تمّت بالتشاور مع إسرائيل من دون تشاور معها. وقد كتب المراسل
العسكري لـ«يديعوت» أليكس فيشمان أنّ «إسرائيل نقلت أمس (أمس الأول) إلى رجال
الاستخبارات العامة المصرية موافقتها على الإعلان المصري، وكان التفاهم على أن
يتمّ هذا الإعلان في لقاء الجامعة العربية في القاهرة، بحيث تكون دول الجامعة
ضامنة لإسرائيل الحفاظ على الهدوء من غزة في واقع الأمر». وأضاف أنه حدث «في ساعات
الظهر تطور مكّن المصريين من أن يُبلغوا إسرائيل في ساعات المساء عن إعلان مصري
بوقف إطلاق النار اليوم (أمس)».
وفي كل حال من الواضح أن المقاومة،
خصوصاً «حماس»، راهنت على أن المواجهة مع إسرائيل سوف تحقق لها حلاً لعدد من
مشكلاتها دفعة واحدة. وطبعاً هذا الحل لن يتحقق إلا عبر اتفاق لوقف إطلاق النار.
ورأت أن مثل هذا الاتفاق ينبغي أن يلحظ ليس فقط العودة إلى تفاهمات «حرب عمود
السحاب» في العام 2012 وإنما أيضاً، بين أمور عدة، تنفيذ بنودها بشأن الحصار البري
والبحري. وكان في صلب مراهنة «حماس» أنّ المواجهة سوف تحلّ مشكلتها مع السلطة
الفلسطينية في رام الله ويمكن أن تكسر الجليد بينها وبين مصر.
وتقريباً لم تتضمن المبادرة المصرية،
وفق «حماس»، شيئاً من هذا بل تنتقص من تفاهمات «عمود السحاب» عبر إدراجها أمر وقف
الأعمال العدائية براً وبحراً وجواً و«تحت الأرض» في إشارة للأنفاق، وعبر ربط فتح
المعابر بـ«الظروف الأمنية».
وأياً يكن الحال فإنّ المبادرة
المصرية استقبلت في إسرائيل، ومن اللحظة الأولى، بمشاعر متضاربة. كل من كان يريد
وقف إطلاق النار بترتيب وجد فيها ما يريد. أما مَن كان يريد عدم ترتيب وقف النار
فرأى فيها خطراً على هيبة إسرائيل، خصوصاً أنه يعرف أنّ «حماس» سوف ترفضها. وربما
أن الحجة المركزية لنتنياهو في اجتماع «الكابينت» كانت أن على إسرائيل قبول
المبادرة المصرية لأنها «سيئة» لـ«حماس» وسوف تقود لتجريد غزة من السلاح بضغط دولي
لاحقاً. أما مَن رفضها، خصوصاً وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان ووزير الاقتصاد
نفتالي بينت، فاعتبروا قبولها «خنوعاً للإرهاب».
المصدر: السفير