«غيتو» لبناني للفلسطينيين
بقلم: د. فايز رشيد
فجأة، ودون سابق إنذار، انطلقت أعمال بناء
جدار إسمنتي عازل حول مخيم عين الحلوة. بسرعة فائقة، بدأت معالم الجدار في الظهور.
ووفقا للمصادر فإن شركة المقاولات التي لُزمت المشروع، وقامت بتلزيم شركات صغيرة أعمالا
تنفيذية فيه، ربما تكون عائدة إلى مقربين من شخصية لبنانية غير مدنية بارزة (حسب المصادر)،
وهي التي كشفت مخطط بناء الجدار.
ووفقا للمعلومات، سيستغرق بناؤه نحو 15 شهراً،
نظراً لدقة العمل ووظيفته الأمنية. والتنفيذ يجري تحت إشراف ضباط كبار من الجيش اللبناني.
والعملية تسير وفقاً لما هو مرسوم لها. وقد جرى إهمال كل الاعتراضات التي تقدّم بها
الفلسطينيون لإلغائه، لاسيما أن أبراج المراقبة فيه تكشف كل منازل الفلسطينيين في المخيم،
وهي ليست منازل بالمعنى الحقيقي لها، وإنما بيوتات بسيطة، معظم سقوفها من ألواح الزينكو.
المصادر اللبنانية تؤكد أن بناء الجدار تستدعيه ضرورات أمنية، وأنه يخفف من احتمالات
الاحتكاك المباشر بين الفلسطينيين من أبناء عين الحلوة وعناصر الجيش، لكن أصوات الاعتراض
الشعبي داخل المخيم ارتفعت عاليا وفنّدت التفسيرات اللبنانية. نعم، بدأ ينتشر داخل
المخيم تعبير «جدار العار» في وصف السور الذي يسيج حياة نحو 70 ألف فلسطيني. ربما فات
الإخوة اللبنانيين، أن الغيتو، ارتبط بالتجمعات اليهودية في مدن العالم، مع فارق أن
اليهود، هم من اختاروا العيش في حارات خاصة بهم، ولم تُبنَ أسوار حول تجمعاتهم السكنية.
ومع الاحتلال الصهيوني لكامل الأرض الفلسطينية، تفتقت العقلية الصهيونية عن فكرة إحاطة
الفلسطينيين بالجدران لعزلهم وسجنهم داخلها، وبالفعل بُنيتْ وتبنى الجدران العنصرية
من حولهم.
نأسف لنقل الإخوة في السلطة اللبنانية، تجربة
العدو الصهيوني في التعامل مع شعب عربي، من المفترض أنهم إخوان له، ولكن مع فارق أن
الأسوار العالية تحيط بمخيم بسيط للاجئين الفلسطينيين، الذين أعلنوا مرارا وعلى رؤوس
الأشهاد، أنهم ضد توطينهم في لبنان أو أي بلدٍ آخر، وهم لن يقبلوا وطنا، غير وطنهم
الأصلي فلسطين. معروف تاريخ تحكم شرطة المكتب الثاني اللبناني في حياة الفلسطينيين
سنوات طويلة، حين عاشوا اضطهادا وقمعا كبيرين، في ظل منعهم من العمل في 72 مهنة، بدءا
من طبيب، ومهندس، وموظف وصولا إلى عمال نظافة في البلديات اللبنانية. الفلسطينيون في
لبنان ذاقوا الويلات، بدءا من ارتكاب المجازر بحقهم من قبل حزب الكتائب وجماعات سمير
جعجع، على شاكلة مجزرة صبرا وشاتيلا، إضافة إلى المجازر الصهيونية بحقهم وحق اللبنانيين
أيضا. أهلنا في لبنان، ما زالوا يعانون الأمرين، وفوق كل ذلك يأتي بناء «جدار العار»،
في أكبر مخيم لهم.
لو تساءلنا، ماذا تريد السلطة اللبنانية
من أهلنا في لبنان، فوق كل ظروفهم الصعبة، وقرارات منع العمل بحقهم؟ بالفعل ربما يكون
ذلك سؤالا شائكا رغم بساطته أتمنى لو أسمع وغيري إجابة رسمية لبنانية على هذا السؤال،
أقول ذلك لأننا ندرك، جواب أهلنا عما يريدونه من لبنان؟ إنهم لا يريدون شيئا، غير العيش
بعزة وكرامة وأمان على وضعهم ووضع أبنائهم، حتى تحين ساعة العودة إلى الوطن الفلسطيني.
يريدون أن يكون لبنان كما كل الاقطار العربية، منابر لخدمة عدالة القضية الفلسطينية،
دون الانتقاص من أي مظهر سيادي لهذا البلد العربي والحفاظ على أمنه. نريد من لبنان
إعطاء الجزء من شعبنا (الذي لجأ إليه مضطرا، بعد تهجيره القسري من فلسطين عامي
1947 و1948 بعد المذابح العديدة، التي اقترفت بحقه على أيدي العصابات الإرهابية الصهيونية)
كافة حقوقه الإنسانية أولا، وحقوقه السياسية وحقه في التعبير عن رأيه تجاه قضيته الوطنية،
وحقوقه الاقتصادية والاجتماعية، وفقا للمواثيق والاتفاقيات الدولية وبرتوكولات حقوق
الإنسان وحقوق اللاجئين، التي وقعها لبنان ذاته. نعم، لا نريد أكثر من ذلك.
للعلم أنه حتى لهجة سكان شمال فلسطين وجنوب
لبنان، متشابهة تماما. يعود هذا إلى التاريخ القريب، فقبل عام 1920، لم تكن هناك أي
حدود بين لبنان وفلسطين، كانت الأخيرة محجا لأهل لبنان، خاصة مدينة حيفا، كما يافا
أيضا للأشقاء من كل أنحاء الوطن العربي، بحكم ازدهار المدن الساحلية الفلسطينية (وليس
مثلما يدّعي نتنياهو، في كتابه «مكان تحت الشمس»، من أن فلسطين كانت خالية سوى من بدو
رحّل يسكنونها) كمحطات رئيسية للتجارة والتبادل التجداري والاحتكاك مع كل بلدان العالم
آنذاك. كان هذا الأمر أحد العوامل المهمة، لتشكّل فلسطين في تلك الحقبة، منارة ثقافية
وحضارية على صعيد الوطن العربي، وبالتالي كانت فلسطين نقطة استقطاب جامعة للعرب، وبضمنهم
الإخوة اللبنانيون.
ولعلني أستعيرُ معلوماتٍ من بحثٍ مهم للباحث
والكاتب الصديق صقر أبو فخر، يتركز حول الكفاءات الفلسطينية التي هاجرت إلى لبنان،
ودورها في تنمية هذا البلد الشقيق، كما كل الأقطار العربية. الدور ابتدأ فعلياً سنة
1949 وامتد إلى الآن.. ففي سنة 1948ـ 1949، تدفق على لبنان نحو 110 آلاف لاجئ فلسطيني،
وهؤلاء حملوا معهم نحو 150 مليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل اليوم 15 مليار دولار
بالأسعار الجارية. وهذه المبالغ المالية التي صبّت في لبنان مرة واحدة، أطلقت فورة
اقتصادية مهمة. وعلاوة على ذلك، فإن الفلسطينيين اللاجئين كانوا معظمهم أيدي عاملة
مدرّبة، فساهموا في ازدهار القطاع الزراعي في سهول جنوب لبنان، وفي تنشيط القطاع الصناعي
في منطقة الدكوانة ـ المكلس وغيرها من المناطق اللبنانية. وبالتدريج، راح الفلسطينيون
ينخرطون في الحياة الثقافية والعلمية والتربوية في لبنان، ولمع بينهم الكثيرون ممن
كان لهم شأن في الازدهار اللبناني أمثال يوسف بيدس، مؤسس بنك إنترا، وكازينو لبنان،
وطيران الشرق الأوسط، وحسيب الصباغ وسعيد خوري مؤسسي شركة اتحاد المقاولينC. C.
C.. رفعت النمر مؤسس
البنك الاتحادي العربي ثم بنك بيروت للتجارة، وباسم فارس وبدر الفاهوم (شركة التأمين
العربية)، وزهير العلمي (شركة خطيب وعلمي)، وغيرهم كثيرون.
كان الفلسطينيون في لبنان رواداً في مختلف
المجالات. وهؤلاء على الرغم من مأساة الاقتلاع واللجوء التي حاقت بهم، تمكنوا من التغلب
على شروط النفي القسري، وبادروا إلى الخروج من قيودها، وأبدعوا في الحياة العمرانية
والثقافية كل الإبداع. إن أول شركة لتوزيع الصحف والمطبوعات في لبنان أسسها فلسطيني،
وهي شركة فرج الله. وأول من وصل إلى القطب الجنوبي في بعثة علمية سنة 1958 ورفع العلم
اللبناني هناك هو الفلسطيني جورج دوماني. وأول من أسس شركة تأمين، هو باسم فارس،(شركة
التأمين العربية). وأول من قاد طائرة جمبو في شركة طيران الشرق الأوسط هو حنا حوا.
وأول متخصص برسم الخرائط هو سعيد الصبّاغ. وأول فرقة للرقص الشعبي أسسها مروان جرار
ووديعة حداد جرار، قيصر حداد أسس (ثانوية الروضة المعروفة). وأول من أسس الفرق الكورالية
ألفاريس بولس وسلفادور عرنيطة. وأول من أسس مراكز البحث العلمي، الفلسطيني وليد الخالدي،
ومعه السوري قسطنطين زريق (مؤسسة الدارسات الفلسطينية)، وفايز صايغ (مركز الأبحاث الفلسطيني)،
ويوسف صايغ (مركز التخطيط الفلسطيني)، وأنيس صايغ (الذي جعل مركز الأبحاث أحد أهم مراكز
البحث العلمي). هؤلاء الأشقاء الثلاثة فلسطينيون من أصل سوري عاشوا في لبنان، حتى أن
أول مؤسس للأصولية الإسلامية كان الشيخ تقي الدين النبهاني، الذي أسس حزب التحرير الإسلامي،
وهو فلسطيني.
وكان الفلسطينيون رواداً في ميادين كثيرة
أخرى، فمن رواد النقد الأدبي، لمع محمد يوسف نجم وإحسان عباس. ومن رواد العمل الإذاعي،
برز كامل قسطندي، وغانم الدجاني، وصبحي أبو لغد، وعبد المجيد أبو لبن، وناهدة الدجاني.
ومن رواد العمل المسرحي صبري الشريف. ومن رواد علم الآثار ديمتري برامكي. ومن رواد
العمل القاموسي والمعجمي أحمد شفيق الخطيب، وقسطنطين تيودوري. ومن بين الذين لمعوا
في عالم الموسيقى حليم الرومي، وابنته ماجدة، وفاديا طنب، وشقيقتها رونزا وعبود عبد
العال، ورياض البندك، وجهاد عقل، ومحمد غازي، وعبد الكريم قزموز. ومن أبرز الصحافيين
والكتّاب غسان كنفاني، شفيق الحوت، ونبيل خوري، وسمير قصير، وجهاد الخازن، والياس صنبر،
وفي الكاريكاتير ناجي العلي، وفي الفن التشكيلي بول غيراغوسيان، وجوليانا سيرافيم،
وموسى طيبا، وإسماعيل شموط، وفي التمثيل غسان مطر، ومحمود سعيد، ومارسيل مارينا. وفي
تصميم الأزياء إيلا زحلان. نأمل من الإخوة في السلطة اللبنانية إلغاء قرارهم.
المصدر: القدس العربي