نادر فوز
قبل أيام رمى وزير
العمل، مصطفى بيرم، قراراً بالغ الالتباس عن رفع الحظر عن عمل الفلسطينيين في لبنان.
فقاعة صغيرة أحدثت ضجيجاً كبيراً، فأحيت خطاب الكراهية الوجودي ضد اللاجئين من جهة،
وعبارات كبيرة من حجم "التوطين المقنّع" من جهة أخرى. وتصدّر التيار الوطني
الحرّ وحزب الكتائب اللبنانية وحزب القوات اللبنانية واجهة التصدّي لقرار بيرم، في
تعليقات وبيانات تكاد تكون مشتركة في تماهيها. وسارعت الأحزاب المسيحية، والشخصيات
المسيحية من نواب ووزراء، إلى إصدار المواقف المندّدة لفقاعة بيرم في موسم سياسي على
مشارف ربيع الانتخابات النيابية عام 2022.
البعبع السرمدي
بين هذه القوى
المسيحية، عند لفظ أحرف الفاء واللام والسين المتصّلة ببعضها وبترتيب معيّن، ترقّب
منتظر لحرف الطاء اللاحق بها. وقبل استكمال لفظ عبارة فلسطين أو فلسطيني أو فلسطينية،
تخرج الفوبيا المخزّنة في النفوس. فوبيا متوارثة من جيل لآخر تنهض من مخبئها لمواجهة
البعبع السرمدي المتخفّي تحت السرير أو في دولاب الملابس. بعبع يحمل معه سيرةً من الحرب
الأهلية والوجودية وتاريخاً من المجازر المتبادلة. بعبع يعني السلاح والهيمنة على الشرعية
والدولة، وتهجير المسيحيين والقضاء على لبنان بنظامه و"فكرته" "ورسالته"
المفترضتين. وبعبع يساق فيه الكثير من الأحجام والأعداد، ليتضّح بعدها ضآلته.
ضآلة الأرقام
مليون لاجئ فلسطيني،
نصف مليون لاجئ، 400 ألف لاجئ. أعداد مضخّمة صاحبت النقاش حول اللاجئين الفلسطينيين
في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية. وتضخيم الأعداد من تضخيم البعبع، وسرعان ما انفضح
عندما تجرّأت بعض الجهات على إحصاء السكان. فلا يمثّل اللاجئون الفلسطينيون في لبنان
سوى 174 ألف لاجئ بحسب البرنامج الفلسطيني في منظمة اليونيسيف. منهم حوالى 120 ألفاً
محصورين في المخيّمات حسب الإحصاء المركزي اللبناني. 63% منهم تتراوح أعمارهم بين
19 و35 سنة، أي أنهم وُلدوا بعد عام 1986 حسب ما تشير إليه إحدى الدراسات في ملحق
"جسور" الصادر عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني. أي أنّ أكثر من 63% منهم
ورثوا عيشة المخيّمات وذلّها فقط.
وراثة الذلّ والمخيّم
من سبق لهم وزاروا
أياً من المخيّمات الفلسطينية في لبنان، يمكن أن يتيقّنوا معنى الذلّ المعاش، ولو أنّ
ظروف الاكتظاظ والقهر والفقر قد تختلف نسبياً من مخيم إلى آخر، وما تجمعه هذه المخيّمات
أو التجمّعات السكانية من لبنانيين وأجانب أيضاً. ماذا يعني العيش في المخيّم؟ أن تعيش
في ضواحي ضاحية، حيث لا قانون ولا حقوق. حيث الظروف القاهرة في السكن والتعليم والطبابة.
حيث السلامة العامة متروكة لـ"سبع الحيّ" أو منظمة شبيحة وفصيل مسلّح. حيث
الملجأ الدائم لكل هارب من القانون أو تاجر مخدّرات. حيث ترمي الدولة اللبنانية بحكوماتها
المتعاقبة كل القاذورات السياسية والأمنية والاجتماعية لتتحلّل وتنشر عفنها بين ضحايا
سكن المخيّمات.
وراثة عامة
ورث الفلسطينيون
في لبنان عيشة المخيّم، بينما ورثت الشريحة العمرية من اللبنانيين بعابع وجودية أخرى،
كلّ حسب الانتماء الطائفي أو المذهبي. والحقد على الفلسطينيين ليس شعوراً مسيحياً فقط.
حرب المخيّمات دليل على ذلك. علاقة المخيّمات الفلسطينية في جنوب لبنان بمحيطها الطائفي
دليل آخر. مثلاً، قبل أعوام في إحدى البلدات الجنوبية، اعترضت إحدى النساء على نقل
دم لأحد أقاربها المحتاج لإجراء عملية جراحية عاجلة من متطوّع فلسطيني. فقد يكون الحقد
والخوف والكراهية من أسهل الأمور التي يمكن توريثها من جيل لآخر تحديداً في مجتمعات
متناحرة كالتي نعيش فيها. حتى في بيروت، لا تبدو العلاقة متماهية بين مخيّمي صبرا وشاتيلا
ومحطيهما، تحديداً الطريق الجديدة. وعلى الرغم من كل ما يساق حول اعتماد البيئة السنية
اللبنانية على الديموغرافيا الفلسطينية. كلام فيه الكثير من الخفّة.
يكاد يكون الفلسطينيون
في لبنان بعبعاً سياسياً واجتماعياً مشتركاً، ولو بنسب متفاوتة. القوى المسيحية تنبش
"السيرة الفلسطينية" أو تتلقّفها في المناسبات السياسية و المواسم الانتخابية.
الثنائي الشيعي يطحن الفلسطينيين في عملية مصادرة "القضية" والشعار والعنوان.
البيئة السنية ملّت فعلياً من وجود هذا الكمّ من التفلّت والتشبيح على تخوم مناطقها.
فيعيش فلسطينيو لبنان عيشة الضحية مجدداً، وبشكل مكرّر وعبثي. وكما اللبنانيون ضحايا
أحزابهم وطوائفهم ومليشياتهم، الفلسطينيون أيضاً ضحايا فصائلهم أولاً. فصائل تدير
التفلّت واللا قانون واللا تنظيم، لكن في مربّعات سكانية أضيق وظروف معدومة وعيش أكثر
إذلالاً.
المصدر: المدن