فاتورة غزة وما بعدها
علي بدوان
جاءت فاتورة الصمود الوطني الفلسطيني، في وجه العدوان الإسرائيلي على
قطاع غزة باهظة جداً، ومرهقة، لشعبٍ مُحاصر منذ سنوات. فقد كانت الحرب بمثابة حرب
دولة مجهزة بجيش عرمرم من ناحية السلاح والعتاد وتقنياته التكنولوجية ونوعيته، على
منطقة محاصرة، ومطوقة من كل الأطراف، وعلى شعبٍ شبه أعزل. بعد خمسين يوماً من حرب
الدولة الأقوى في المنطقة على المنطقة الأشد حصاراً والأضعف موارد على وجه
المعمورة.
صمد الفلسطينيون في قطاع غزة، فكان هذا الصمود هو المُكوّن الأول
والأساسي للانتصار، حيث دفعوا فاتورة كبرى على كل مستوياتها، بالدماء والضحايا
والدموع، والتشرّد، حيث مئات الثكالى والأرمل وآلاف الأيتام. وسقوط أكثر من ألفي
شهيد فلسطيني، وأصيب أكثر من عشرة آلاف منهم. كما دفعوا أثمانها بدمار بناهم
التحتية وقطاعات واسعة من الاقتصاد الوطني، ومن دورهم ومنازلهم، حيث تقدر قيمة الخسائر
الاقتصادية التي لحقت بالفلسطينيين بنحو ثمانية بلايين دولار، وهي تقديرات أولية
على كل حال.
استمر العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة خمسين يوماً، حيث شنت
الدولة العبرية عدوانها الأخير على القطاع مستخدمة نخبة تشكيلاتها القتالية
العسكرية، مع الإفراط باستخدام سلاح الجو، الذي استهدف نحو خمسة آلاف هدف داخل
قطاع غزة، تم خلالها إلقاء الحمم النارية على عموم مناطق القطاع، الذي لا تتجاوز
مساحته الجغرافية 366 كيلومتراً مربعاً. لقد كانت معظم الأهداف هي الأبنية
والأبراج السكنية، حيث تسببت تلك الغارات الوحشية بتدمير نحو 10690 وحدة سكنية
(نصفها دمار كلي) وتضررت 141 مدرسة تابعة لوكالة «الأونروا»، و23 مؤسسة طبية (بما
في ذلك خمسة مستشفيات تم إغلاقها) ونحو عشرة مساجد (بعضها دمار كلي). يقدر أن أكثر
من 20 ألف منزل أصبحت غير صالحة للسكن. وتعرضت البنية التحتية الحيوية للمياه
والصرف الصحي للضرر، إذ يقدر أن ما لا يقل عن 40 في المئة من شبكة إمدادات المياه
أصبحت غير صالحة للاستعمال. وأصيبت البنية التحتية بأضرار بنسبة 70 في المئة.
وتضرر معها قطاع الإنشاءات بخسارة تفوق 600 مليون دولار، وهكذا.
ولا تشمل إحصائية الهجمات الإسرائيلية القصف المدفعي وقذائف الدبابات،
والذي تجاوز عدد القذائف الذي أطلق 30 ألف قذيفة، بحيث اقتضى الأمر فتح مخازن
الطوارئ الأميركية الموجودة في إسرائيل لسد النقص الذي حصل في بعض أنواع ذخيرة
المدفعية.
إن الفاتورة الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني نتيجة العدوان الاسرائيلي
على القطاع كان من نتائجها تَشَرّد حوالي ثلاثمئة ألف شخص، لم يجدوا أمامهم سوى
مدارس وكالة «الأونروا»، حيث أقاموا مع عائلاتهم في نحو 85 مدرسة من مدارس
الوكالة، اذ تركز القصف الجوي الإسرائيلي على الجزء الغربي من قطاع غزة، حيث توجد
كل مراكز الإيواء الطارئ التي تديرها وكالة «الأونروا»، وحيث يوجد الجزء الأعظم من
السكان المدنيين الذين طاولتهم نيران قوات الاحتلال. وتتضمن الاحتياجات الأشد
إلحاحاً الغذاء والمواد غير الغذائية، مثل أدوات النظافة الصحية التي تساعد في منع
تفشي الأمراض. تتضمن الأولويات الأخرى تقديم الرعاية الصحية الأولية والدعم النفسي
والاجتماعي.
في هذا السياق، وأمام الحالة الإنسانية الصعبة، وأمام المهمات الكبيرة
التي تقوم بها وكالة «الأونروا»، أطلقت الوكالة قبل أيام نداءً عاجلاً للدول
المانحة (دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا واليابان) من أجل تأمين
مبلغ إجمالي قدره 295.4 مليون دولار لدعم ما يصل إلى نصف مليون شخص من المهجرين،
بمن فيهم أكثر من ثلاثمئة ألف شخص يتوقع أن يواصلوا الإقامة في مدارس الوكالة.
فالمدنيون الذين وقعوا في دائرة عنف الاحتلال بحاجة إلى مساعدة لتلبية احتياجاتهم
الفورية، ولدعم مسار التعافي النسبي الطويل الذي يتوقع أن يبدأ بعد التوقف الأولي
لإطلاق النار.
إن توفير الدعم المالي لوكالة «الأونروا»، وحث المجتمع الدولي بالتبرع
لها مهمة عربية عاجلة، من أجل دعم موازنة الوكالة، ودعم برامجها المُعلنة التي
يجري تنفيذها، من أجل بلسمة جراح الشعب الفلسطيني المنكوب على أرض قطاع غزة.
في المقابل، إن العدوان على قطاع غزة لم يكن نُزهة أمام الاحتلال كما
اعتقدت حكومة نتانياهو، بل دفع الاحتلال وجيشه الأثمان الكبرى أيضاً أمام الشعب
الفلسطيني وقواه الوطنية وفصائله الفدائية المسلحة، فما خلفته تلك الحرب خلال
خمسين يوماً من خسائر في جانب الجيش الإسرائيلي والاقتصاد ومختلف المرافق، أحدث
شرخاً كبيراً داخل حكومة نتانياهو، وبين مواقف النخب الأكاديمية والاقتصادية من
جهة وبين النخبة السياسية الداعمة للحملة العسكرية من جهة ثانية. وهو ما يُنذِرُ
بسقوط الحكومة الإسرائيلية في وقت قد لا يكون بعيداً، والدعوة إلى انتخابات
مُبكّرة تحت تأثير ضغط الشارع، وتحت تأثير قوى اليمين واليمين المتطرف التي كانت
تتطلع وتنتظر نتائج حاسمة من معركة قطاع غزة.
الحياة، لندن