القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 30 تشرين الثاني 2024

فطوم عمتي الزعترية

فطوم عمتي الزعترية

بقلم: ناديا فيصل الحسين

سكنت وأهلي مخيم تل الزعتر شرق مدينة بيروت حتى عمر الثالثة عشرة، كانت حياتنا جميلة، على الأقل كانت هانئة وبسيطة جداً، الى ان جاء يوم الثاني والعشرين من حزيران حيث حوصر المخيم وشُنّ هجوماً موسّعاً عليه وبدأت القذائف تتساقط علينا كالمطر

كان مخيم تل الزعتر من أجمل مخيمات العائدين الفلسطينيين في لبنان. فهو يقع في منطقة مليئة بالمعامل المتعددة (حوالى 22 في المئة من معامل لبنان) كمعمل الكبريت ومعمل البلاط والحديد والحجارة والزجاج. بالرغم من الفقر الذي كان سائداً حينها، كان أهالي المخيم يعملون في تلك المعامل ويعتاشون مما يحصّلونه منها.

بيتنا كان يقع وسط المخيم تقريباً، بجانب الجامع. وكان أبي يعمل في ملحمة فرهود في منطقة فرن الشباك.

12 آب عام 1976. انه النهار الذي لا أزال أذكره كأنه أمس. آخر نهار عشناه في مخيمنا قبل سقوطه النهائي، قبل ان يدمر بالكامل ويُخفى عن وجه العاصمة بيروت.

كنت مع أمي واخوتي، ودار جدي –المختار- في احدى البنايات المجاورة للمخيم، حيث فتح لنا صديق جدي «الحاج ابو محمد الخطيب» بيته لنحتمي فيه بعدما قصفت الملاجئ وجميع بيوت المخيم. سمعنا طرقاً عنيفاً على الباب، واذ بعمتي زينب تجهش بالبكاء وتقول: «فاتوا المجرمين ع المخيم، عم يقتلوا كل الناس». سألتها أمي بسرعة عن أهل أبي الذين كانوا يختبئون في معمل البلاط القريب من بيتهم. فبعض سكان المخيم لجأوا الى هذا المعمل واحتموا بداخله. كانت كل عائلة تجمع كمية من صفائح البلاط الموجودة فيه، تصفها فوق بعضها بعضاً وتستعملها كحائط يفصلها عن العائلات الأخرى. كما كنا نفعل ونحن صغار حين كنا نلعب لعبة «بيت بيوت».

عندما سمعت عمتي سؤال أمي عن أهلها، انهارت وهي تحاول البوح بما حصل داخل المعمل. فهمنا منها ان مسلحي المليشيات الذين وصلوا الى هناك، دخلوا الى المعمل، أخذوا جميع الصبية والرجال، طلبوا منهم الاصطفاف الى الحائط، ثم برشاشاتهم، أطلقوا النار عليهم جميعاً. حدث ذلك أمام أعين نسائهم وأطفالهم!

عمتي فطوم، «ام خالد» كانت مع النساء في المعمل. رأت كيف سقط جسد زوجها على الأرض، مثله مثل البقية. صرخت وهي تشاهد أحد الهمجيين يقود دبابة ويدهس أجساد الرجال والشباب. عندما علمت أمي ما حصل دمعت وهي تردد: «يا ويلي عليكِ يا فطوم، كيف تحملتي؟ لو أنا مكانك لأموت من وجعي بلحظتها».

لم يكن ذلك آخر آلام عمتي المسكينة، فكان ابنها الكبير خالد يجلس على الأرض بجوارها، أخذوه منها وهو يصرخ ويناديها، وكانت آخر مرة تراه فيها. اما بالنسبة إلى طفلتها التي لم يتجاوز عمرها الثلاثين يوماً في ذلك الوقت، رآها أحد المسلحين تضمها الى صدرها، فاقترب منها وحاول ان يسحبها منها وهو يقول : «هاتي الولد اللي معك بدي أقتله، لازم يموت ولا بكرا بيكبر وبيصير فدائي مع ابو عمار». أخذت عمتي تستحلفه ان يتركها وفتحت قطعة القماش التي كنت قد لفّت بها الطفلة وقالت له: «تطلع والله هاي بنت، هاي بنت عمرها كم يوم بس، حرام عليك». لم يأخذ الطفلة. ولكنه أشار لعمتي بسلاحه ان تمشي مع بقية النساء الى مدخل الكنيسة.

من بقي يومها على قيد الحياة، سمحوا له بالخروج وركوب الشاحنات التي حمّلت الناس على بعضهم بعضاً وابعدتهم عن بيروت الى أماكن عديدة كالدامور وشحيم والبقاع وغيرها من المناطق التي كان لسكان تل الزعتر معارف او أقرباء فيها.

لم تكن فطوم لتصدق انها ستخرج من تل الزعتر مع بقية اطفالها، وتسكن احد المخيمات الأخرى بجوار من تبقى من أقاربها، وانها ستشهد معهم الذكرى الثامنة والثلاثين لتدمير حياتها في تل الزعتر.

المصدر: الأخبار