فلسطينيو الكويت
بعد ربع قرن من الاجتياح العراقي
بقلم: محسن صالح
تمرّ في شهر أغسطس/آب
2015 ذكرى 25 عاما على الاحتلال العراقي للكويت. وكما أحدث الاجتياح العراقي للكويت
هزة كبرى للمجتمع الكويتي وهزات على المستوى العربي والإسلامي والدولي، فقد عانى الفلسطينيون
المقيمون في الكويت بشكل هائل منه أيضا. حيث اضطروا للنزوح بأعداد كبيرة، حتى انخفض
عددهم من نحو 430 ألفا إلى حوالي 30 ألفا فقط خلال
فتحَت الكويت صدرها للفلسطينيين،
حتى منذ أن كانت تحت الحماية البريطانية، وعند استقلالها سنة 1961 كان هناك نحو 37
ألف فلسطيني يشكلون نحو 18.5% من الوافدين (غير الكويتيين)، بينما كان عدد الوافدين
المصريين مثلا ثلاثة آلاف فقط.
وفي ستينيات وسبعينيات القرن
العشرين -خصوصا في إثر حرب 1967 التي أدت لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة- تزايدت
أعداد الفلسطينيين بشكل كبير فبلغت سنة 1975 حوالي 204 آلاف، يشكلون 29.7% من مجموع
الوافدين المقيمين في الكويت والبالغ عددهم 687 ألفا.
وقد حافظ الفلسطينيون على
نسبتهم المرتفعة مقارنة بالوافدين حتى الاحتلال العراقي للكويت في صيف 1990، حيث بلغت
27.9% من مجموع الوافدين (430 ألفا من أصل مليون و542 ألفا). وبشكل عام، ظل الفلسطينيون
يشكلون الجالية العربية الأولى في الكويت منذ استقلالها وحتى الاجتياح العراقي.
جذب الفلسطينيين إلى الكويت
ما وجدوه من تفهم وحسن عشرة لأهلها، ومن هامش حريات واسع، ومجلس أمة منتخب، وصحافة
نشطة، ومن فرص العمل الشريف، ومن أمن واستقرار قلما وجدوه في غيرها.
وأسهم الفلسطينيون بشكل
فعال بنهضة الكويت وازدهارها في كافة القطاعات الإدارية الحكومية والقطاع الخاص؛ إذ
لم يقتصر دورهم على وظائف هامشية، وإنما كانوا حاضرين في صُلب العملية النهضوية الكويتية.
وكان لهم دور بارز في توفير كادر وظيفي كفؤ وفعال في الوزارات والمؤسسات الحكومية،
من المعلمين والأطباء والصيادلة والمهندسين والمحاسبين والكَتَبة.. وغيرهم.
ولم يتقلص دورهم إلا مع
تخرج أعداد واسعة من الأجيال الشابة الكويتية، وبعد تطبيق الحكومة لسياسة "التكويت".
وعلى سبيل المثال، فقد كان 49% من مدرسي المدارس الحكومية سنة 1965 من الفلسطينيين؛
وحتى سنة 1975 كانوا ما زالوا يمثلون ربع المدرسين.
وتمتعت التيارات الفلسطينية
المختلفة بهامش تحرك جيد وسط الفلسطينيين دونما تدخل حكومي يذكرغرد النص عبر تويتر،
إلا في ما يحفظ أمن البلد واستقراره. لذلك، لم يكن غريبا أن تنشأ حركة فتح وتترعرع
في الكويت، وأن تبرز العديد من قيادات حماس في الخارج من الكويت نفسها.
كان للفلسطينيين دور حيوي
في الحياة الاقتصادية المحلية، فخلافا للوافدين الآخرين كان معظم الفلسطينيين ينفقون
رواتبهم ودخولهم في السوق المحلي، وتسير إيراداتهم في دورة اقتصادية داخلية. ذلك لأن
معظمهم كانوا يقيمون مع عائلاتهم وينفقون معظم دخلهم الشهري عليها، وأدى شعورهم بالاستقرار
لربط دورة حياتهم بها، فكانوا يعيدون إنفاق رواتبهم في داخل البلد نفسها (ولمستفيدين
كويتيين في الغالب) على شكل إيجارات سكن ومشتريات سيارات ومستلزمات معيشة.
وبقيت نسبة محدودة منهم،
ممن لديهم فوائض مالية أو مسؤوليات تدفعهم لإرسال تحويلات مالية منتظمة خارج الكويت.
كما أن حالة الاستقرار الاجتماعي
ووجود الموظفين مع عائلاتهم، خفض كثيرا من المشاكل التي ترافق عادة العمالة الوافدة
من العازبين.. وبشكل عام، كان الفلسطينيون من أقل فئات الوافدين إخلالا بالأمن أو وقوعا
في التجاوزات.
ولم يعش الفلسطينيون في
مخيمات، ولكن كان هناك مراكز تجمع سكاني قوي داخل مدينة الكويت مثلوا فيها الأغلبية
الساحقة كضواحي النقرة وحولي وخيطان والفروانية، بحيث شكلت أحد أكثف تجمعات الفلسطينيين
في العالم، مما مكن الفلسطينيين من تحقيق قدر عال من التفاعل الاجتماعي الداخلي والتفاعل
السياسي مع القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم ولهجتهم؛
مع الإشارة إلى الطبيعة الإيجابية المنفتحة للفلسطينيين مع الكويتيين وباقي الوافدين.
وقد بدأت أحوال الفلسطينيين
منذ مطلع الثمانينيات في التراجع، نتيجة تراجع الأوضاع الاقتصادية في الكويت بسبب انخفاض
أسعار النفط، ونتيجة لتبني سياسة التكويت، ومحاولة ضبط العمالة الوافدة.
وعانت العائلات الفلسطينية
خصوصا من مشاكل تعليم الأبناء، بعد أن لم يعد يسمح لهم بدخول المدارس الحكومية الكويتية
إلا لمن ولد منهم في الكويت، وعانت من التكاليف الكبيرة المترتبة على إرسال أبنائهم
إلى الخارج للحصول على التعليم الجامعي، بعد أن وصل الحد الأدنى لقبول الطلبة غير الكويتيين
في أواخر الثمانينيات في الجامعة الوحيدة في الكويت إلى نحو 94% في شهادة الثانوية
العامة.
كما لم يسمح لمن جاوز الـ21
من عمره بالإقامة في الكويت إلا لمن يملك إقامة عمل، مما عرض آلاف الطلبة الدارسين
في الخارج إلى إنهاء إقامتهم وتشتت عائلاتهم. وعانت العائلات الفلسطينية (وعائلات الوافدين
بشكل عام) من ارتفاع الإيجارات السكنية، التي كانت تقتطع في أحيان كثيرة أكثر من نصف
رواتبهم الشهرية.
كانت المأساة التي تعرض
لها المجتمع الفلسطيني في الكويت -إثر الاجتياح العراقي للكويت وما تلاه- كارثة بكل
المقاييس، فقد كان هذا المجتمع الذي تم اقتلاع أكثر من 90% من أفراده بشكل قاس ومفاجئ،
يمثل أكبر تجمع فلسطيني (خارج فلسطين) في العالم بعد الأردن؛ حيث كان عدده يزيد على
عدد الفلسطينيين في سوريا أو لبنان أو السعودية أو غيرها.
وحتى أيامنا هذه، ما زال
تناول تلك المأساة يتسم بالكثير من الحساسية والتردد. فقد رافقت عملية الاجتياح حملات
هائلة من التحريض الإعلامي والسياسي، واستخدم العديدون ممن خاضوا في الموضوع خطابات
تتسم بالانفعال العاطفي، وبالتعميم والتشويه وحتى الكراهية.. بحيث أصبح من الصعوبة
بمكان تناول الأمر من زاوية علمية منهجية موضوعية. ونحن هنا نود تسجيل بعض الملاحظات
في هذه الذكرى، نحو فهم أفضل لتلك المأساة.
كان قرار صدام حسين باحتلال
الكويت نموذجا لقرارات الأنظمة الدكتاتورية الفجة المتسرعة التي تمت وفق حسابات خاطئة،
والتي ارتدت سلبا على العراق والكويت وقضية فلسطين والمنطقة.
وكان من أبرز مظاهرها خلط
نظام صدام المتعمد بين مشكلته وخلافاته مع الكويت، وبين طرح احتلال الكويت في إطار
مشاريع الوحدة العربية والمسيرة لتحرير فلسطين، ومواجهة الصهاينة والأميركيين؛ في الوقت
الذي لم يكن فيه صدام يملك رؤية حقيقية للوحدة والتحرير، ولا يملك الأدوات والإمكانات
والبنى التحتية التي تؤهله لذلك.
كما أن نظامه الدكتاتوري
لم يكن قادرا على جذب الناس إليه وتوحيدهم تحت رايته. ولذلك، قام بالتوظيف السياسي
للقضية الفلسطينية لاستجلاب الدعم والتأييد الشعبي. ونجح في الحصول على تعاطف واسع
خصوصا في فلسطين والأردن، حيث تتعلق آمال الناس دائما بمن يرفع راية فلسطين، ويعلن
العداء لـ"إسرائيل" وأميركا.
كان لموقف قيادة منظمة التحرير
الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في الوقوف إلى جانب صدام حسين في الحرب ضد التحالف العربي
الدولي الذي قادته أميركا لطرد القوات العراقية من الكويت، أثره السلبي الكبير في موقف
الكويتيين ودول الخليج من منظمة التحرير، وحتى من الفلسطينيين أنفسهم.
وقد زاد الطين بلة أن صدام
استقدم إلى العراق عددا من الفلسطينيين المنتمين لجبهة التحرير العربية (وهي فصيل فلسطيني
مدعوم من النظام العراقي البعثي)، ووضعهم في بعض نقاط التفتيش والحواجز على الطرق في
الكويت. ومع أن حركة حماس وقطاعات أخرى من الفلسطينيين رفضت الاحتلال العراقي، وطالبت
بحل الخلافات في إطار عربي بعيدا عن التدخل الأجنبي، إلا أن الصورة السلبية عن الفلسطينيين
ظلت عالقة في الذهنية الكويتية.
اتسم موقف الأغلبية الساحقة
من فلسطينيي الكويت برفض الاحتلال العراقي للكويت؛ ففضلا عن أن ما رأوه بأعينهم لا
ينبئ عن مشروع وحدة ولا تحرير، فقد ساءهم ما رأوا من معاناة إخوانهم الكويتيين، ومن
فقدان للأمن وتدهور للمرافق والخدمات، كما أن حياتهم الاقتصادية ووظائفهم وأعمالهم
قد تعطلت، وتوقفت مرتباتهم الشهرية. ولأن البنوك قد أغلقت، لم يعد بإمكان الفلسطينيين
وغيرهم السحب من مدخراتهم. أما الكويتيون فقد كانت لديهم شبكات خدمات توصل إليهم احتياجاتهم
المالية والمادية.
وفي الوقت نفسه، وقع كثير
من الفلسطينيين -خصوصا العاملين في قطاعات التعليم- تحت ضغط النظام العراقي في استئناف
التعليم، وتحت ضغط كويتي مقابل بالإضراب وشل الحياة المدنية.
ولذلك اضطر أكثر من نصف
الفلسطينيين (200-250 ألفا)، للمغادرة خصوصا للأردن قبل الانسحاب العراقي من الكويت،
كما عاد ثلاثون ألفا للضفة الغربية وسبعة آلاف لقطاع غزة.
ومن جهة أخرى، فقد قام الفلسطينيون
بدور مهم في تسيير الخدمات الضرورية لاستمرار الحياة في الكويت من كهرباء وماء وصحة..
وهو ما ساعد الكويتيين وغيرهم على البقاء والصمود في هذه الظروف الاستثنائية. وظهرت
حالات عديدة لفلسطينيين خاطروا بأنفسهم في إخفاء وحماية عدد من أصدقائهم الكويتيين،
أو في حفظ ملفات وأرشيفات حساسة، كما شارك بعضهم في المقاومة الكويتية أو في دعمها.
وتشير بعض الإحصائيات إلى أن القوات العراقية اعتقلت ما مجموعه خمسة آلاف فلسطيني أثناء
وجودها في الكويت لأسباب مختلفة.
أسهم التحريض الإعلامي الهائل
في رسم صورة سوداوية لدى معظم الكويتيين تجاه الفلسطينيين. وعندما عادت السلطة للكويتيين،
جرى محاسبة الفلسطينيين في الكويت على مواقف قيادة منظمة التحرير التي لم يتبنوها والتي
لم يكن لهم علاقة بها.
وعاش من تبقى من الفلسطينيين
ظروفا أمنية واقتصادية عصيبة، ومُنع معظم الفلسطينيين من العودة إلى وظائفهم.. وأشارت
مصادر فلسطينية إلى اعتقال حوالي ستة آلاف فلسطيني في الأشهر التالية لتحرير الكويت.
وخلال عام كان قد اضطر للخروج نحو 150-200 ألف آخرين، ليتبقى فقط نحو 30 ألف فلسطيني.
ورأى مراقبون في الضغط الذي تعرض له الفلسطينيون سياسة متعمدة من بعض الجهات التي كانت
تخشى من مشاريع توطين الفلسطينيين وتجنيسهم حيث يقيمون.
وبشكل عام، حلت العمالة
المصرية والسورية وغيرها.. مكان العمالة الفلسطينية. وقد أظهرت إحصائيات صادرة عن الإدارة
العامة للهجرة في وزارة الداخلية الكويتية نشرتها جريدة الأنباء في 11 ديسمبر/كانون
الأول 2014، أن عدد المقيمين الأردنيين يبلغ 58.694 شخصا (المرتبة العاشرة بين الوافدين)،
وأن عدد الفلسطينيين من حملة الوثائق المصرية واللبنانية والسورية يبلغ 7.292 شخصا،
بالإضافة إلى 626 يحملون جوازات "فلسطين" الصادرة عن السلطة الفلسطينية.
وبافتراض أن معظم المكون
الأردني هو من أصول فلسطينية، فإن العدد التقديري للفلسطينيين سيكون بحدود 60 ألفا
تقريبا؛ مع الأخذ بالاعتبار وجود فلسطينيين يحملون جوازات سفر أوروبية وأميركية وأسترالية.
وقد أشارت الإحصائية نفسها
إلى وجود 533 ألف مصري، و145 ألف سوري، و43 ألف لبناني.. أما الجنسيات غير العربية،
فيتصدرها الهنود بـ787 ألفا والفلبينيون بـ186 ألفا والبنغاليون بـ181 ألفا. وبشكل
عام، فإن نسبة العمالة الفلسطينية إلى مجموع العمالة الوافدة (مليونين و451 ألفا) لم
تعد تتجاوز 2.5%، أي أقل من عُشْر النسبة التي كانت عليها سنة 1990.
بالنسبة للفلسطينيين فقد
خسروا مصدر دخل اقتصادي لمئات الآلاف منهم، كما حدث نوع من الانكفاء الكويتي تجاه الدعم
الشعبي والرسمي للقضية الفلسطينية خصوصا في السنوات الأولى التي تلت الأحداث.. وقد
أسهم التحريض الإعلامي والتجييش العاطفي في تكريس نظرات الشك وعدم الثقة تجاه الفلسطينيين..
وفي المقابل، خسر الكويتيون كفاءات فلسطينية هائلة خدمت البلد بكفاءة وإخلاص؛ وخسروا
جالية كانت تنفق معظم دخلها في الكويت وترفد الدورة الاقتصادية المحلية.
غير أن المجتمع الكويتي
أخذ يتجاوز نظرته السلبية مع الزمن، ويتعامل مع الفلسطينيين بمزيد من الروح الواقعية
والعملية.. وقد أسهمت انتفاضة الأقصى والأداء الفلسطيني البطولي المقاوم في استعادة
الكثير من العافية للعلاقات بين الطرفين، وفي تسهيل عودة أعداد من الفلسطينيين للعمل
في الكويت.
إن الشعب الكويتي، كما الشعب
الفلسطيني والعراقي.. هي شعوب أصيلة تنتمي إلى أمة عربية وإسلامية واحدة، ينبغي أن
تتساند وتتكامل وتتعاون، وينبغي ألا تدفع أثمان سياسات أنظمة، أو أخطاء أفراد، كما
ينبغي أن تحذر من كافة أشكال التحريض التي تثير الفُرقة والعداوة.
وأخيرا، تبقى تجربة الفلسطينيين
في الكويت بحاجة إلى المزيد من الدراسات والتقييمات العلمية الهادئة والشفافة.
المصدر: الجزيرة نت