القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

فلسطينيو سوريا: إحياء النكبة الثانية

فلسطينيو سوريا: إحياء النكبة الثانية

بقلم: سلام السعدي

فلتركن للظلام، تلك الحقبة المكللة بالعار التي تغاضى فيها النظام السوري عن دخول القوات الإسرائيلية إلى لبنان لإخراج قوات الثورة الفلسطينية، مقابل التغاضي الغربي والسماح له بتدمير مدينة حماة.

في الأيام القليلة الماضية، أحيا الفلسطينيون السوريون الذكرى السنوية الأولى لنزوحهم عن أكبر المخيّمات الفلسطينية على الإطلاق، مخيم اليرموك في جنوب العاصمة دمشق. تذكروا معاً، كشعب لاجئ، نكبتهم المعاصرة بألمٍ عظيم، يحدوه أمل "العودة”، لكن إلى مخيم اللجوء هذه المرة، وليس إلى فلسطين.

ابتدأت النكبة الثانية بحادثة "الميغ”. الحادثة الشهيرة التي انطبعت قسوتها وهمجيتها في أذهان الفلسطينيين. ففي 16 كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي 2012، قصفت طائرة الميغ التابعة لجيش "الممانعة والمقاومة” جامع عبد القادر الحسيني الذي كان يغصّ بالنازحين من مختلف المناطق الثائرة المحيطة بالمخيم. وخلّف القصف عشرات الشهداء وأضعافهم من الجرحى.

كانت تلك بداية درب الآلام لفلسطينيي سوريا، ونقطة البداية لذاكرة سوداء، تفيض أوجاعاً وأحزاناً ودموعاً. هي ذاكرة الحصار الخانق الذي فرضته قوات الأسد والجبهة الشعبية- القيادة العامة (أحمد جبريل) على ما تبقى من مدنيين عجزوا عن الرحيل أو أبوا ذلك. وهي ذاكرة الأحباب الذين قضوا نتيجة القصف على المخيم الذي لم يتوقف يوماً واحداً طيلة عام. وهي ذاكرة صناع الحياة ممّن أرداهم قنّاصٌ غادر شغوف بالقتل المجاني، أو ممّن انتصروا عليه وبقوا أحياء رغماً عن شغفه الوضيع. وهي ذاكرة عشرات العظماء ممن قضوا تحت التعذيب في سجون النظام بعد اعتقالهم، وآخرهم الفنان الفلسطيني السوري حسان حسان، والشهيد أحمد ولويل، والشهيد أحمد أبو ريا.

كان من العسير جداً، إبقاء مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين خارج دائرة الثورة السورية، إذ بدا محاصراً بمناطق الثورة (القدم، الحجر، يلدا، التضامن)، حيث تٌفرّغ الطائرات الحربية حمولات الموت والدمار فوق رؤوس السكان، وحيث تمطر السماء قذائف تفتك بالحجر والبشر. ربما يكون مما أخّر الدخول المباشر للمخيم في الثورة، وجود عدد ليس بقليل من سكانه ممن تخوفوا دوماً من فكرة التغيير، وما قد تحمله من آثار على حقوقهم وأوضاعهم. غير أن الضفة الأخرى فاضت بجيش جرار من الشباب الفلسطيني الذي لم يكن لينتظر أية "ضمانة” من ثورة شعبية عفوية لكي ينحاز إليها، خصوصاً أنه فُطر على العداء لكافة الأنظمة العربية من دون استثناء، ولم تنطل عليه يوماً خدعة "الممانعة”.

هكذا ومع جمهور لا يتردد في الانحياز لقيم الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وتنظيمات فلسطينية مطواعة، ترعرعت في كنف النظام السوري ولم تتردد يوماً عن مساندته ظالماً أو مظلوماً، كان محتّماً لإحدى أهم وأكبر بوابات جنوب دمشق أن تتحول من الرقعة الوادعة والحاضنة للنازحين، إلى الجبهة الأكثر اشتعالاً في خطوط دمشق الجنوبية. وعاش الفلسطينيون من جديد "حالة حصار”، أعادت الحياة إلى كلمات محمود درويش الشهيرة، التي خصّ بها الاحتلال الإسرائيلي. أحكم الحصار قبضته على المخيم وعلى أهله الذين تقدر أعدادهم الحالية بنحو 100 ألف، من أصل أكثر من نصف مليون فلسطيني وسوري كان المخيم يختنق بهم يوماً ما. لكنهم جزء لا يتجزأ من ذاكرة المخيم، حيث النشاط البشري والكثافة السكانية لا تشبه منطقةً أخرى.

كان عشرات آلاف المدنيين في المخيم، إما من العائلات المعدمة التي عجزت عن إيجاد ملاذ آمن، أو من العائلات والأشخاص الذين تمتعوا بالقوة والجرأة اللازمتين لكي يبقوا في مخيمهم المحاصر، يحاصرون الحصار، وينذرون أنفسهم في خدمة من تبقى من السكان. وقد شكل هؤلاء عددا من الهيئات والجمعيات الإغاثية التي سجلت نشاطاً عظيماً.

يُشاع منذ ما قبل الثورة السورية، وعلى نطاق واسع، أن اللاجئين الفلسطينيين في سوريا يتلقون المعاملة الأفضل على الإطلاق في سوريا مقارنة بدول الجوار. ويراد لهذه "الحقيقة” أن تغيّب حقائق أخرى. منها أن "المعاملة بالمثل” مع السوريين، تحتم على الفلسطينيين أن يكونوا أوفياء لطموحات أبناء سوريا الحقيقيين، بل أن يكونوا جزءً منها. هي معاملة واحدة للشعبين، إنها معاناة مشتركة، ضد سلطة نهبت البلاد وأفقرت وسحقت العباد.

كما يراد لتلك "الحقيقة”، أن تحجب الضوء عن التآمر التاريخي للنظام السوري على القضية الفلسطينية وعلى قيادة منظمة التحرير. فلتركن للظلام، تلك الحقبة المكللة بالعار، والتي تغاضى فيها النظام السوري عن دخول القوات الإسرائيلية إلى لبنان لإخراج قوات الثورة الفلسطينية، مقابل التغاضي الغربي والسماح له بتدمير مدينة حماة والتنكيل بأهلها على نحو مشابه لما يفعله اليوم في كل المدن والبلدات السورية، ومن ثم السماح له باحتلال لبنان.

يضاف اليوم، الحقيقة الأكثر ثباتاً، والموثقة عبر عام كامل، وهي التنكيل الممنهج بسكان المخيم، ورفض فك الحصار عنهم. والمثابرة على اغتيال خيرة الشباب الفلسطيني الواعد والحالم بمستقبل أفضل.

إذ تزامنت الذكرى الأولى للخروج من مخيم اليرموك، مع استشهاد الفنان الفلسطيني السوري حسان حسان تحت التعذيب بعد مضيّ شهرين على اعتقاله في سجون النظام السوري. وحسان فنانٌ شاب، قاده إحساسه المرهف للعمل في المسرح وفي مختلف ألوان الفن كممثل ومخرج موهوب. وكان "أبو السكن” كما يطلق عليه أصدقاؤه، من ذلك الصنف الفريد من الشباب، ممن تمسكوا بمخيم اليرموك متحدين الحصار والبرابرة الذين يحاصرونهم. انهمك حسان مع ما تبقى من أصدقائه، بإنتاج الفن من داخل الحصار، وأنتج بروحه المرحة، وبلمسات ابن المخيم، المتقد ذكاءً ووعياً وألماً، أعمالاً فنية رسمت البسمة على الوجوه المتعبة. وثّقت أعمال الشهيد حسان للنكبة الفلسطينية الجديدة، ولفرسان وزهرات تلك النكبة، لشهداء في مقتبل العمر خطفتهم طغمة فاشية، كانت دوماً على عداء مستحكم مع الحياة والفن وفلسطين والمقاومة.

*كاتب فلسطيني

المصدر: الأرض أونلاين