القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

فلسطينيو سوريا بين السندان والمطرقة

فلسطينيو سوريا بين السندان والمطرقة

بقلم: عارف أبو مريفة

يوجد في سوريا 11 مخيما فلسطينيا تديرها وتشرف عليها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة اختصارا باسم (UNRWA) تضم هذه المخيمات، حسب الإحصاءات الرسمية ،ما يقارب من 561724 ألف فلسطيني ولا تشمل هذه الأعداد سوى من يحمل بطاقة (إعاشة) أي المسجلين فقط في سجلات وكالة الغوث، ويقـــول العارفون بامور المخيمات أن هؤلاء هم الأقلية أما الأكثرية والتي تناهز اعدادها مليون فلسطيني فهــــم منتشرون في جميع المدن السورية وهم في الغالب الأعم من الطبقة الغنية أو المتوسطة العليا، الذين إما هجروا المخيمات بعد أن اغتنوا، او انهم في الأصل من العائلات الميسورة، حيث أن القانون السوري يسمح لهم بالعمل وتملك العقارات والنشاطات الصناعية وحتى المصرفية.

ثلاثة أجيال فلسطينية شهود التحولات السورية

توسع مخيم درعا للاجئين بعد النكسة والحق به مخيم آخر للنازحين من الحمة والجولان، العمل الفلسطيني السياسي كان علنيا في مخيمات سوريا ولكن الوجود العسكري لم يكن مسموحا به، كان لكل تنظيم فلسطيني وجود عسكري خارج المخيمات تمثل بمعسكرات أو ثكنات للتدريب فقط، في المخيم كانت مقرات هذه الفصائل تشكل حالة من العمل المقاوم على أصعدة التنظيم ودعم الأجنحة العسكرية في لبنان بالمقاتلين أو في التوعية الشعبية والنشاطات الاجتماعية والثقافية، وكان أمر الوجود الفلسطيني العامل مرهوناً بالعلاقة السياسية بين القيادة السورية، وبين مختلف الفصائل الفسطينية، فكان يتم مثلا إغلاق واعتقال جميع مقرات وأعضاء جبهة الرفض - التي تشكلت بعد الدخول السوري المسلح إلى لبنان وقيامه بإجهاض المشروع الوطني اللبناني - أو يتم مثلا طرد أعضاء فتح وتسليم مكاتبهم إلى فتح الإنتفاضة وهو التيار الذي انشق عن فتح الام في العام 1983.

كان ما يصدر في هذا المخيم - المُلحق بمدينة درعا من جهة الشرق ـ من صحف ومجلات وأفلام ومحاضرات وندوات يعادل جميع هذا الأنشطة في جميع مدن حوران، كان لكل تنظيم فلسطيني على الأقل مجلة اسبوعية غير النشرات والملصقات والبيانات والكتب والأشعار الممنوعة ، كان المخيم خلية نحل وكان مقصد المثقفين السورييين من المعارضة، اليسارية تحديدا - لأن الوجود الإسلامي في المخيم كان مندمجا مع حركة فتح التي كانت تحوي أعضاء الإخوان المسلمين وقد تم طردها نهائيا من المخيمات الفلسطينية كما ذكرنا سابقا في العام 1983 وقبلها كان اعتقال أو هروب الإخوان المسلمين ـ أما مقر حزب البعث العربي الإشتراكي ـ فرع فلسطين، فقد كان خارج المخيم، مترهلا وخاويا كفرعه الرئيسي وغير فاعل في المخيم.

المُخبر والكلب

لا أدري كيف عاش هذا الكلب، فقد طردته أمي وطردتني معه، وكان جروا صغير عندما أحضرته إلى البيت: أرجعه من حيث جبته، قالت أمي: لن تدخل البيت معه، بتواطؤ مع إخوتي نقلنا الكلب إلى سطح البيت وقلنا لها: خلص أرجعناه إلى صاحبه، وبدأنا نهرب له الطعام إلى سطح البيت، اكتشفت أمي الأمر، ولكنها ربما رقت لنا وهي ترى فرحتنا به، فسمحت ببقائه، كان يحمل إسما غريبا لا أدري من أطلقه عليه (أبو عبدو). كبر الكلب، وصار يرابط أمام باب دكان اللحام (الجزار) الذي وجد في الكلب شريكا يخلصه من البقايا التي لا تُباع.

في ليلة صحوت على صوت أبو عبدو يزمجر وصوت إنسان مذعور، خرجت إلى الزقاق كان أبو عبدو حاشراً المخبر المعــــروف باسم (بهيج) كان هذا المخبر مرعباً المخيم في النهار يتبختر طـــولا وعرضا في المخيم كالطاووس يهين من يشاء ويشاكس من يشاء، لأول مرة أراه مذعوراً كالفأر يستنجد بي أن أخلصه من براثن وأنياب أبو عبدو، لجمت أبو عبدو، التقط بهيج أنفاسه، قال لي: ابقه في البيت إذا رأيته خارجاً سأقتله، هنا عرفت ان بهيج وجماعته يتلصصون ويسترقون السمع على بيوت أهل المخيم في الليل.

لابد أن قرارا صدر بالتخلص من أبو عبدو، فقد اختفى بعد أيام، ثم وجدنا جثته في السهل القريب من المخيم خلف (الحسبة)، كان جسده مثقوبا بالرصاص (بندقية صيد) الذي قام بالمهمة هو أحد سكان الحارة من البعثيين وهو الوحيد الذي يمتلك بندقية صيد مرخصة، عدا عن أن أبو عبدو لا يتبع أحداً إلى هذه المنطقة إلا إذا كان من سكان الحارة، كانت جريمة علنية بالنسبة لنا، فنحن نعرف القاتل، لذا قررنا حرق بيته، ولكننا لم ننجح سوى في اشعال بعض القش الملقى فوق سطح البيت، وانطفأ الحريق دون أن يشعر القاتل به.

مخيم اليرموك قلب دمشق النابض

الفلسطينيون في سوريا هم جزء من الشعب السوري بالمفهوم السكاني المدني، فليس هناك ما يميز بين طالب فلسطيني أو طالب سوري في جامعة دمشق مثلا، فكلاهما في يوم معين من كل أسبوع يخلعان الزي الجامعي الموحد وهو الأزرق الكحلي، ويرتديان الملابس العسكرية الكاملة، وكانت تلقى عليهما نفس المحاضرات العسكرية ونفس التمارين العملية، الخدمة العسكرية أيضا إجبارية عليهما معا، ولكن الفلسطيني يخدم إسميا في ما يسمى بجيش التحرير الفلسطيني، وهو جيش يحمل نفس الإسم ويتبع فعليا للدولة العربية الموجود فيها، ولا يتبع لقيادة منظمة التحرير، كما في العراق ومصر والأردن.

داخل المخيم أيضا، كانت المخابرات السورية تحكم القبضة الحديدية نفسها التي تراها في الجامعات والإدارات والمصانع، ذكر لي صديق كان يسكن المخيم أنه كان عائداً إلى بيته وفي الطريق اشترى زجاجة عرق من السوق السوداء، وعندما نزل من الباص واتجه إلى بيته خبأ الزجاجة تحت معطفه في الجهة اليسرى وهو يقبض عليها بيده اليمنى خوفاً من أن يراها الجيران، وفجأة: توقفت بجانبي سيارة فخمة كان فيها شاب واحد يرتدي بذلة رسمية أنيقة، طلب مني أن أقترب منه، فاقتربت وهنا ظهر انه يحمل مسدسا يصوبه نحوي ولكن باب السيارة كان يخفيه عني، قال لي هو يصوب مسدسه نحوي: ماذا تحمل ؟ فأردت أن أريه الزجاجة ولكنه هز مسدسه وقربه مني وهو يقول: ولا حركة، فأكدت له أنها زجاجة عرق، فطلب مني أن أبقي يدي حيث هي وأن أقترب منه، وفعلا اقتربت حتى التصقت بالسيارة فمد يده اليسرى وكشف عن المعطف وهو يضع المسدس في بطني، وعندما تأكد من حمولتي سألني عن اسمي وأين أسكن، ثم صرفني.

صديق آخر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قال لي أنه كان مضطرا للنزول من مكتبه والاتجاه إلى مكتب آخر في مخيم اليرموك ويقول أنه كان ينتظر حوارا مع الحكيم (جورج حبش) على إذاعة مونت كارلو: كان معي راديو صغير (ترانزيستر) وضعته على أذني ونزلت، وما أن سرت أقل من مائة متر حتى كان شخص غليظ البنية شرس النظرات يضع يده على كتفي وهو يقول ماذا تفعل ؟ في نفس الوقت امتدت يده إلى المذياع انتزعه مني ووضعه على أذنه، ولما تأكد أنه راديو سألني عن إسمي وعنواني، وصرفني، كان لا يزال صاحبي بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على هذه الحادثة يتساءل: هل كان يعتقد أني أسير بجهاز إرسال في وضح النهار؟!.

كان مخيم اليرموك مُلتقى جميع التيارات السياسية، العسكرية منها أو التي ليس لها وجود عسكري في سوريا ولبنان، كانت دمشق محطة (ترانزيت) أساسية للقوى العسكرية الفلسطينية واللبنانية والعربية وحتى العالمية أضف إلى ذلك المعارضة السورية العلنية منها والسرية، سيما في ظل الأوضاع الامنية الصعبة لمطار بيروت إبان الحرب الأهلية ثم بعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان، فلا غرابة أن تكون المخيمات مسرح عمليات اساسي على جدول السبعة عشر جهازأ أمنياً سوريا.

ظهرت حالة غريبة في مخيم اليرموك تحديدا، بعد الانفجار السكاني، عندما انضم إليه كثير من المهاجرين السوريين من أكراد ودروز وحوارنة وعلويين وبدو إضافة طبعاً إلى النازحين من أهل الجولان، فتوسع المخيم كثيرا وكانت أعين أصحاب رؤوس الأموال منتبهة إلى هذا السوق الذي يضم أكثر من مليون مستهلك، فظهرت محلات تجارية، وواجهات زجاجية لا تتناسب مع المخيم، وظهرت سوق سوداء كبيرة، كل شيء مهرب من لبنان تجده في المخيم، الحكومة لم تكن عاجزة عن ضبط هذه السوق السوداء في المخيم فهي تسمع (دبة النملة) كل ما في الأمر ان كبار المهربين الذين يمولون سوق المخيم هم أصلا من ضباط الجيش.

الثورة السورية في المخيمات

منذ البداية كان الحسم في المخيمات سريعا، لن نذكر أسماء، سنترك هذا الأمر لمؤرخي الثورة السورية وشهودها، مخيم درعا، مخيم الرمل في اللاذقية، مخيمات دمشق، سبينة، جرمانا، اليرموك، فلسطين، مخيم النيرب في حلب، هرب منها عملاء'السلطة منذ الأيام الآولى، وعندما تسلحت المعارضة برزت الحاجة إلى الخبرة الفلسطينية العسكرية التي وضعت نفسها في خدمة الثورة، وأبلت بلاء حسنا يشهد له أهل الثورة، مخيم درعا الصغير والذي لا تتعدى مساحته كلم واحد خسر 170 شهيدا، المخيم دمر عن بكرة أبيه، حتى عندما انسحب الثوار من المخيم، وهدأ القصف، عاد بعض أهل المخيم إليه ولكنهم وجدوه غير صالح للحياة، البنية التحتية مدمرة، رائحة الموت تملأ المكان، الجثث المتعفنة، لا مجال للعيش في مخيم درعا الآن، يحتاج إلى إعادة إعمار شاملة.

مشكلة فلسطينيي سوريا مع بعض أطراف المعارضة الخارجية، جعلتهم يفكرون في تجربة العراق المريرة، والمقارنة بينها وبين تجربة مخيمات فلسطينيي لبنان، الخيار واضح، في العراق تم طردنا وإبادتنا لاننا لم نكن مسلحين، في لبنان لا أحد يجرؤ على الإقتراب من المخيمات لأنها مسلحة وقادرة على الدفاع عن أهلها رغم كثرة الأعداء، بعض أطراف المعارضة الخارجية تهاجم المقاومة وتتحدث علناً مع الصهاينة عن التوطين، الحكم على الأرض للثوار، جيش التحرير الفلسطيني التابع للجيش السوري تعرض لانشقاقات كبيرة ومؤثرة حتى الآن هي في خدمة الجيش الحر وقضية الثورة، ظهرت في الآونة الاخيرة كتائب عسكرية فلسطينية مسلحة، حان وقت التنظيم الآن: تنسيقيات المخيمات وكتائبها المسلحة في خدمة الثورة السورية التي نعتبرها جسر العودة وتحرير فلسطين، ما عدا هذا - وإذا لا سمح الله نجح تيار الناتو في ركوب موجة الثورة على الطريقة الليبية - فسلاحنا على الأقل للدفاع عن النفس، وضد التوطين، ولكن لا هجرة ولا تهجير ولا عودة إلا إلى فلسطين.

المصدر: القدس العربي