فلسطينيو سورية في تركيا: مرارة
الغربة وذكريات الحرب
بقلم: عز الدين الطيراوي - تركيا
بين الفينة والأخرى، وبين يوم
وآخر، وكلما دخلت منزلاً يقيم فيه فلسطينيون جاؤوا من سورية للبحث عن الأمان ولقمة
العيش في تركيا، تحضرني المسرحية الناقدة (غربة) ومشهد المغتربين العرب في إحدى
الدول الأجنبية التي لا تعاملهم كبشر، بل كأرقام فقط.
الحال في تركيا بالنسبة إلى
الفلسطينيين ليس سيئاً بالدرجة التي طرحها أحد مشاهد مسرحية غربة، وما هو بالصورة
نفسها؛ لأن السلطات التركية لا تعاملهم كأرقام، بل في كثير من الأحيان يعيشون
ويتجولون في شوارع إستانبول وغيرها من المدن دون رقيب أو حسيب. وفيما إذا اعتُقل
أحدهم بسبب دخوله غير الشرعي أو عدم وجود أوراق ثبوتية معه، يخرج بعد فترة لا
تتجاوز شهراً أو يُرحَّل إلى الحدود السورية.
إلا أن واقع الفلسطيني يختلف
كثيراً عن غيره من المواطنين اللاجئين إلى تركيا، سواء أسوريين كانوا أم عرباً أم أجانب؛ فهو واقع سيئ له طعم
مرّ، وذلك بسبب عدم منح السلطات التركية كما أسلفنا في العدد الماضي أي أوراق
إقامة أو أوراق ثبوتية يستطيع من خلالها الفلسطيني العمل أو التنقل بحرية تامة،
وبالتالي حرمانه خدمات كثيرة تقدمها الحكومة التركية لأقرانه من السوريين.
إستانبول... شباب ضائع وعائلات
منسيّة
تجولت في كثير من الأحياء
والشوارع في إستانبول، علّني ألتقي بمن تركوا مخيم اليرموك وغيره من المخيمات
الفلسطينية وتوجهوا إلى تركيا، ولم أحظ بلقاء أحدهم إلا بعد جهد جهيد حين سألت أحد
أصدقائي الأتراك: أين يمكن أن أجد في إستانبول تجمعاً فلسطينياً أو عربياً؟ فدلني
على إحدى المناطق التي فيها كثافة سكانية عربية. وبالفعل، لم أسمع في تلك المنطقة
سوى لغة عربية بلهجات متعددة، وتعرفت إلى أحد الفلسطينيين المقيمين في تلك
المنطقة، إلا أنه لم يكن من مخيم اليرموك، بل من قرية المزيريب في ريف درعا
الجنوبي، وسألته طبعاً عن عائلات أو شباب من مخيم اليرموك يسكنون في هذه المنطقة،
فقال لي: إنهم كثر هنا، ولكنك لن تراهم إلا بعد العشاء، وخصوصاً الشباب؛ لأنهم
يتجولون في هذا الشارع جيئة وذهاباً.
عدت أدراجي إلى منزلي على نيّة
الذهاب إلى تلك المنطقة في يوم آخر وأحمل في جعبتي الكثير من الأسئلة في حال
التقائي بمن تركوا سورية من الفلسطينيين وجاؤوا إلى تركيا.
بعد أيام ذهبت إلى تلك المنطقة،
وهي تقع في وسط إستانبول تقريباً، لأجد ما لم أكن أتوقع رؤيته: شباب يفقد نشاطه
وطموحه ويغرق في ضياع تام، وعائلات يطويها النسيان تعيش في وضع مأسوي بسبب قلة
الموارد المالية وظروف الحياة الصحيحة السليمة.
أول منزل دخلته كان يعجّ
بالشباب، حيث يسكنه أحد عشر شاباً من مختلف الأعمار من 17- 30 سنة. المنزل عبارة
عن غرفتين، إحداهما مخصصة للنوم، والثانية للجلوس والسهر على التلفاز ولعب الورق
والتدخين والنرجيلة.
تعرفت إليهم جميعاً، وهم من
عائلات معروفة في مخيم اليرموك وغيره من المخيمات. وكل واحد منهم لديه قصة يرويها
أو قصص لا يمكن روايتها حتى. من كثرتها ومرارتها في آن واحد.
أحدهم، يدعى براء، قال لي إنه
موجود في تركيا هو وأخوه منذ سبعة أشهر، وانتهى بهما المطاف في إستانبول منذ أربعة
أشهر، تنقلا خلالها بين معظم المدن التركية، من جنوبها إلى شمالها وغربها، وذاقا
مرارة الغربة من قلة عمل ونوم في الحدائق، يتقاذفهما جوع من هنا وبرد من هناك.
سألتهما: ما الذي دفعكما إلى
المجيء إلى هنا؟ فقال لي: اعتُقل والدي بسبب إسعافه عدداً من الجرحى في حيّ
التضامن الملاصق لمخيم اليرموك وإحضارهم إلى مشفى الباسل، وهو موجود في أحد الفروع
الأمنية منذ ما يزيد على سبعة أشهر، وبقيت قوات الأمن مترصدة لنا في حارتنا أنا
وأخي أيضاً، بسبب مساعدتنا للوالد في إسعافه الجرحى، فاضطررنا إلى الخروج من
المنزل في أول فرصة سنحت لنا، متوجهين إلى الاراضي التركية. وها نحن منذ سبعة أشهر
هنا ننتظر الهروب إلى إحدى الدول الأوروبية، وقد رضينا بالحياة على هذا النحو،
أملاً في فرج قريب، وتخفيفاً لمصاريف المعيشة هنا. ونحن لا نستطيع العمل بسبب عدم
وجود إقامة.
شابٌّ آخر من قرية المزيريب في
جنوبيّ درعا طلب عدم ذكر اسمه، قال لي إن الحياة هنا أشبه بالجحيم، وقد ندمت عدة
مرات على الخروج من سورية، وقررت أن أعود، ولكن كان أصدقائي يمنعونني خوفاً عليّ
من حصول الأسوأ في سورية. وأضاف: عندما أخرج من هنا، لن أفكر أبداً في العودة إلى
هذا البلد بسبب ما لحقنا من ظلم فيه. وكما ترى، نحن نعيش كالحيوانات، هنا أكل وشرب
ونوم وانتظار ولا شيء غير ذلك.
شابٌّ آخر من مخيم حمص يدعى زاهر
ح.، قال لي: نُصب عليّ أحد المهربين بأكثر من 10.000 $، وكان قد وعدني بتهريبي إلى
إحدى الدول الأوروبية. وبعد أن سلمني جواز سفر أوروبياً، اكتشفت لاحقاً أنه مزوّر
ومكشوف لدى السلطات التركية. اعتقلت في المطار، وزُجّ بي في السجن، وهُدِّدتُ
بالترحيل إلى سورية، لكن الحمد لله اقتصر الأمر على السجن وخسارتي لأموالي التي
وفّرتها من عملي لأكثر من 7 سنوات، وها أنا أعيش هنا على فتات من يملكون مالاً
يقيتون به أنفسهم.
عائلات بين مطرقة الغربة وسندان
الانتظار
طلبت من أحد الشباب أن يأخذني
إلى عائلات فلسطينية تسكن هذه المنطقة، وغير بعيد عن البيت الذي يسكنه هؤلاء
الشباب، دخلنا أحد المنازل عبر ممر مظلم تفوح منه رائحة الرطوبة وتملكني الخوف من
رؤية أمر لم أتوقعه.
طرقنا الباب فخرج لنا طفل لم
يتجاوز الثامنة من العمر، فسألني: ماذا تريد؟ قلت له: أريد أباك. فنادى أباه، وطلّ
عليّ إطلالة خائف من الباب، وإذا به يحضنني ويقول لي بلهجة عامية: لك شو عم بتساوي
هون؟ فقلت له مازحاً: جئت أراك، وسأعود إلى سورية بعد لقائك، فضحك ودعاني إلى
الدخول.
دخلت المنزل وكلي أمل في أن أجد
فيه شروط الحياة الصحيحة، لكن خاب ظني؛ فالفرش بدا عليها التعب من كثرة النوم
عليها، والأغطية ممزقة. نظرت وحزنت كثيراً حين قال لي: شايف وين صرنا وكيف عم
بنعيش؟ طبعاً أعرف هذا الشخص معرفة جيدة في مخيم اليرموك، وكان يعمل متعهداً
لأعمال الدهان، وكانت أحواله جيدة.
سألته: شو اللي وصلك لهدرجة من
التعب؟ فأجاباني: الحياة صعبة هنا وغالية، ولا أحد يتطلع إليك أو يحنّ عليك. لا
أخوة ولا جيران ولا ولا، والمال الذي خرجت به من سورية نفد جميعه، وأنا الآن أعيش
على طرد غذائي تقدمه لي إحدى الجمعيات الخيرية. وحزنت أكثر حين قال لي إنه رغم هذه
القلة والفاقة، إلا أنه لن يعود إلى سورية؛ فهنا يشعر بالأمان على عائلته وأولاده.
وأقسم لي إن اثنين من أولاده يصحوان من النوم في الليل أكثر من مرة يبكيان إذا
سمعا قليلاً من الضجة ليرتميا بحضنه قائلين: بابا هاد صوت قذيفة.
سألته عن عمله، فقال لي: لا
أستطيع العمل؛ لأني لا أملك أية أوراق إقامة، ولديّ قليل من الأوراق الثبوتية التي
خرجت بها من سورية. وأتبعت سؤالي بتعجب: ماذا تنتظر؟ فقال لي: أخي في إحدى الدول
الأوروبية، وأنتظر أن يرسل لي أي جوازات سفر لأخرج بها أنا وعائلتي إلى أيّ مكان،
ولو كان القبر.
تجولت في غرف المنزل الثلاث، ولم
أجد سوى بعض الحقائب المرمية هنا وهناك، وعندما دخلت المطبخ، سألته إن كان لديه
ماء بارد، فقال لي: هذا البرّاد منظر فقط ولا أشغله توفيراً لمصاريف الكهرباء
الغالية هنا جداً، وزوجتي تطبخ ما يكفينا حتى لا يزيد من الطعام شيء، ولا نضطر إلى
وضعه في البراد.
لم أستطع المكوث طويلاً في هذا
المنزل لما رأيته من معاناة، ورحلت وأنا يعتصرني ألم لم أشهده في حياتي
مطلقاً.
وضع برسم التدخل السريع
الحقيقة المرة التي رأيتها في
عدة مدن تركية عن فلسطينيي سورية، لم أكن أتوقعها؛ فوضع الفلسطيني في المدن
التركية الأخرى لا يقل سوءاً عن وضعه في إستانبول؛ ففي أنطاكية رأيت عائلة من
عائلات مخيم اليرموك المعروفة أيضاً تعمل في الرعي، رغم أن جميع أبنائها متعلمون
ويملكون شهادات جامعية، وهؤلاء ربما كان وضعهم أفضل من غيرهم؛ لأنهم يعملون
بالمحصّلة، وهم راضون بذلك، قائلين إنها أشرف المهن؛ لأن أنبياء الله تعالى جميعهم
عملوا بها، ونحن راضون بالرعي ما دمنا لا نحتاج أحداً ولا نمدّ أيدينا للغير.
في مدينة مرسين الساحلية التقيت
بدكتور فلسطيني من سكان مخيم اليرموك، وهو أيضاً مترجم معروف، وكان يعمل في إحدى
الإذاعات الأجنبية.
سألته عن أوضاعهم، فأجاباني:
"زفت". لا عمل، لا أوراق إقامة، لا يوجد شيء يستحق الحياة هنا. أنا أعيش
على راتب يتقاضاه ولدي، يبلغ نحو 500 ليرة تركية، أي ما يساوي 270$ ولا يكفينا حتى
نصف شهر. فسألته: كيف تتدبرون أموركم؟ فقال: ربنا لا يقطع أحداً.
آخر ما سأرويه، هو ما رأيته في
إحدى حدائق مدينة أنقرة حين كنت أتجول مساءً مع صديق لي هناك، فرأيت شابين في
مقتبل العمر يفترشان الأرض، وملامحهما تقول إنهما من أحد المخيمات الفلسطينية.
توجهت نحوهما وطرحت السلام بلهجة عربية وردّا عليّ بلهجة عربية – فلسطينية مترافقة
مع كلمة (خيّا)، فعرفت أنهما من مخيم اليرموك، وسألتهما عن اسميهما وماذا يفعلان
هنا، فقالا لي: خدعونا وقالوا لنا إن هناك عملاً في أنقرة، وإن الحياة رخيصة هنا،
ولكنا فوجئنا حين وصلنا اليوم ظهراً، حين أردنا أن نأكل، فدخلنا إلى مطعم وكلفتنا
الوجبة 75$. وحين أتينا إلى فندق طلبوا منا لليلة الواحدة 130$، ففضلنا النوم في
الحديقة حتى الصباح لنذهب إلى مدينة أخرى علّها تكون أفضل وأرخص ونجد عملاً فيها.
إن هذا الوضع المأسويّ بكل ما تحويه الكلمة من
معنى، يستلزم تدخلاً سريعاً لدى السلطات التركية من قبل الجهات المسؤولة التي تعدّ
نفسها ممثلة للشعب الفلسطيني في الشتات؛ لأنّ الفلسطينيين هنا يعانون الأمرّين
ويقفون مشدوهين من تلكؤ المسؤولين الفلسطينيين والأتراك تجاه قضيتهم ومعاناتهم
التي لن يوقفها سوى إعطاء أوراق إقامة لمن لجأوا من حرب لا تبقي ولا تذر إلى حياة
ظنوها أفضل.
المصدر: مجلة العودة، العدد
الـ70