القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

فلسطينيو سورية قبل الهاون وبعد الهاون

فلسطينيو سورية قبل الهاون وبعد الهاون

بقلم: علي بدوان

باتت التجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية (مخيمات ومناطق) بمثابة أنبوب اختبار سياسي، تفاعلي، يغلي ويفور مع سير الأحداث في البلد، مع بروز نشاط متميّز لقطاعات الشباب الفلسطيني المستقل بغالبيته عن عالم الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، ومعه المؤسسات والجمعيات ذات الطابع الشعبي، والتي نُطلق عليها مسمى مُؤسسات المجتمع المدني وهي مؤسسات حاضرة بفعالية مؤثرة رغم إمكانياتها المحدودة : لجان العمل الأهلي (تكافل)، الهيئة الخيرية لإغاثة الشعب الفلسطيني، هيئة فلسطين الخيرية، الكشاف الفلسطيني، جمعية الإسراء للتنمية الخيرية، الجمعية الخيرية الفلسطينية، اللجنة الفلسطينية للإغاثة والتنمية (إيثار)، جمعية القدس الخيرية، بيت التراث الفلسطيني، اللجنة الأهلية للمخيمات الفلسطينية، مؤسسة جفرا، مؤسسة بصمة. إضافة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والسوري، والهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سورية، ووكالة الأونروا، واليونيسيف...

وبالطبع، فإن الحراك الكبير في التجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، يصب باتجاه واحد، مساره العمل على مساعدة أبناء الشعب السوري الشقيق التوأم السيامي للشعب الفلسطيني، وخصوصاً القادمين منهم من مناطق التوتر التي تشهد سخونة عسكرية إلى التجمعات الفلسطينية ومنها على وجه الخصوص مخيم اليرموك الملاصق لمدينة دمشق من جهة الجنوب، والذي تحيط به مناطق شعبية سوريا تضم كثافة سكانية كبيرة جداً، لم تجد من ملاذ آمن لها سوى مخيم اليرموك في ظل التوتر العسكري السائد في البلد.

فقد تضاعف عدد سكان اليرموك خلال الشهرين الماضيين عدة مرات نتيجة القدوم السكاني إليه، ليصبح عدد سكانه بحدود مليون نسمة تقريباً، يشكّل الفلسطينيون داخله أقلية في بحر سكاني من الاخوة الأشقاء السوريين، ومع ذلك فإن السمة والوسمة والصفة العامة لهذا التجمع تبقى فلسطينية حتى لو وصل تعداد الفلسطينيين داخله إلى ما دون الربع من المجموع العام لسكانه في الوقت الحالي.

تشريح الحالة الفلسطينية

الشيء الملفت للنظر في هذا السياق، أن الحالة الفلسطينية الرسمية على المستوى الفصائلي مازالت متقاعسة إلى الآن قياساً لما هو مطلوب منها في هذا الظرف الاستثنائي، فلم تستطع حتى الآن أن تجاري حركة الشارع الفلسطيني، الذي سبقها أشواطاً وأشواطاً كبيرة على صعيد القيام بالدور المطلوب بين عموم الناس لجهة توفير الخدمات المطلوبة للمجتمع المحلي، وإطلاق لجان الإغاثة الاجتماعية والصحية. ولجهة توفير الحصانة والحماية الضرورية للممتلكات العامة والخاصة، وإحلال الأمن المجتمعي، وتوفير المساعدات للأخوة السوريين الذين وصلت أعداد كبيرة منهم إلى مخيم اليرموك، وباقي المخيمات والتجمعات الفلسطينية.

كما تَقدم دور وكالة الأونروا على تواضعه على أدوار القوى والجهات الفلسطينية المعنية، فالوكالة ووفق بيناتها المنشورة في الأول من يناير 2012 تقدم خدماتها لما يزيد عن (510,444) لاجئا فلسطينيا مسجلا يعيشون في سوريا منذ نكبة فلسطين في العام 1948، وبرز دورها مع تفاقم الأزمة السورية حيث عملت على تفعيل برامج الطوارئ في حال الكوارث والأزمات، وهو برنامج يقع ضمن توصيف عملها والتزامها بتقديم خدمات الاغاثة للاجئين الفلسطينيين وفق قرار تأسيسها في العام 1949.

وفي حقيقة الأمر، إن التقاعس والتقصير الفلسطيني الفصائلي عن القيام بالدور المطلوب في المخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية يعود بشكل رئيسي لفقدان تلك القوى الرؤية الموحدة لها في لحظات إدارة الأزمات، وإن اتفقت كل تلك القوى على مبدأ الحياد الإيجابي للفلسطينيين في الأزمة السورية، علماً أن الحياد الإيجابي هو موقفاً شعبياً قبل أن يكون موقفاً فصائلياً.

كما يعود ذلك التقصير وفي جانب منه إلى استمرار تلك العقلية ذاتها المعشعشة عند غالبية تلك القوى، عقلية المناكفات، وسيادة التباينات غير المبدئية والتي تصب في خانة العصبيات التنظيمية الضيقة، وروح البروزة الفصائلية التي تتقدم على أي عمل ملموس للناس والمجتمع المحلي. فقد تواترت اجتماعات الفصائل والقوى السياسية ومازالت يومياً دون فعل ملموس اللهم سوى المماحاكات والتنظيرات اللفظية التي لا تغني ولا تسمن.

وانطلاقا من الوارد أعلاه، إن غياب التوافق في العمل وفق آليات محددة بين عموم القوى الفلسطينية في سوريا، دفع بتلك القوى إلى الوراء بدلاً من أن تتقدم بأدوارها المطلوبة منها، وأبرز دور المستقلين والمؤسسات الشعبية المسماة بمؤسسات المجتمع المدني والتي تديرها بمعظمها مجموعات من الشباب الفلسطيني الناشط، والتي أخذت على عاتقها القيام بكل ما هو ممكن لإدارة المدارس والمساجد التي تم إيواء المواطنين السوريين إليها، وهم القادمون من المناطق المحيطة بمخيم اليرموك، مع تأمين كل ما يلزم لهم من غذاء وكساء، إضافة لإدارة برنامج تعليمي وترفيهي لأطفال تلك العائلات داخل التجمعات المدرسية العائدة لوكالة الأونروا وعددها نحو (38) مدرسة تديرها الوكالة في مخيم اليرموك.

إن الحديث عن التقصير الفصائلي من قبل عموم القوى الفلسطينية في سوريا تجاه ما هو مطلوب منها، لايأتي في سياق تسجيل النقاط والملاحظات، أو القدح أو الذم، أو جَلد الذات، أو التنكر لتاريخ تلك القوى وأدوارها في العمل الوطني الفلسطيني بمختلف مراحله الزمنية، بل يأتي في سياق الحديث عن أهمية أدوار تلك القوى فيما لو قامت بما هو مطلوب منها تجاه الناس والمجتمع المحلي في لحظات الأزمة الراهنة التي تمر على سوريا، حيث يعيش الفلسطينيون كأشقائهم السوريين في لجة تلك الأزمة وانعكاساتها التي لا تفرق بين أحد منهم.

فالعتب واللوم في هذا المقام، على فصائل وقوى ذات حضور تاريخي بين الفلسطينيين في سوريا، وفي صفوفها الأعداد الكبيرة من الأعضاء والكوادر، في مخيمات وتجمعات كانت البداية في إطلاق شرارات الثورة الفلسطينية المعاصرة ورصاصاتها الأولى التي دوت في سماء فلسطين في الفاتح من يناير 1965.

لقد كانت مخيمات وتجمعات الشعب الفلسطيني في سوريا، الوعاء والخزان الذي لا ينضب الذي زوّد الحركة الوطنية المعاصرة للشعب الفلسطيني بالطاقات البشرية المقاتلة في سياق العمل الفدائي الفلسطيني منذ العام 1965 وحتى ما قبل ذلك التاريخ إبان تشكّل النويات الأولى للعمل الفدائي الفلسطيني بعيد النكبة.

وانطلاقا من ذلك، من حق الفلسطينيين في سوريا أن يرفعوا أصواتهم، وأن يدقوا الخزان (على حد تعبير الشهيد غسان كنفاني) سائلين عن دور تلك القوى الفلسطينية في مجتمعهم المحلي في قلب المعمعان المتوالد عن الأزمة السورية. ومطالبين تلك القوى بالكف عن المناكفات والمقارعات والحرتقات والمهاترات فيما بينها، وإلقاء العصبيات التنظيمية جانباً، والعمل وفق آليات متفق عليها من أجل خدمة المجتمع المحلي الفلسطيني وتقديم يد المساعدة لعموم الشعب الفلسطيني في سوريا ومعهم إخوتهم من المواطنين السوريين الذين لجأوا إلى مخيم اليرموك.

قبل القذائف وبعدها

في هذا السياق، يَلحظ المُراقب والمتابع لما يجري في سوريا، وفي التجمعات الفلسطينية تحديداً، يَلحظ وجود تحوّلات معينة بدت واضحة على المزاج العام للناس في تلك التجمعات خصوصاً منها مخيم اليرموك. فالمناخ العام عند الناس (ونقول المناخ العام، لأن هناك فئات فلسطينية ولو كانت محدودة لها موقف آخر) كان منذ البداية ومازال يقول بضرورة الحياد الإيجابي للفلسطينيين في الأزمة الداخلية السورية، مع تقديم يد المساعدة الممكنة للجميع من أجل تجاوز المحنة التي تمر بها البلاد. لكن الجديد في الأمر أن الموقف إياه تطور نحو الدعوة لتحييد التجمعات والمناطق ذات التواجد الفلسطيني ومنها مخيم اليرموك وجعلها ملاذات آمنة للجميع دون استثناء، وإخراجها من دائرة الاحتكاكات العنيفة التي تجري في المناطق المحيطة بمخيم اليرموك وغيره.

وقد تبدى ذلك الموقف والمناخ الشعبي العام، المستند لرجاحة عقل وتبصّر في تقدير الأمور، بعد التجربة المريرة التي مر بها مخيم اليرموك خلال الشهر الماضي الذي شهد سقوط عدد لابأس به من قذائف الهاون (المورتر) اللعينة على محيطه وأطرافه، وقد سقط بعضها فوق مناطق مكتظة بالسكان من المخيم، وأدت تلك القذائف لسقوط ضحايا بالجملة كان منهم ضحايا شارع الجاعونة في مخيم اليرموك حيث استشهد في لحظة واحدة (27) شهيداً من أبناء المخيم ضحية قذيفتي هاون سقطتا بالتتابع فوق المكان ذاته في الثالث عشر من شهر رمضان الفضيل وقبل موعد الفطور بعشر دقائق، فيما علا صوت العقل، وغاب صوت التوتر والتوتير، فكانت النتيجة الطيبة أن المخيم خرج بعافية وسلامة بأقل الخسائر من محنة سوداء.

وعليه، إن المناخ العام الآن، وبعد فواجع سقوط قذائف الهاون على محيط وأطراف مخيم اليرموك، بات يقرر بأن مخيم اليرموك وغيره من التجمعات الفلسطينية (مخيمات ومناطق) في سوريا يفترض به أن يكون بعيداً كل البعد عن دائرة العمل العنفي وأن يكون ملاذاً آمناً للجميع، يدخله من يشاء من المواطنين.

فقد اقتضت الحكمة وبعد سقوط قذائف الهاون إعلاء صوت العقل المنادي بإضافة الجديد في الموقف الشعبي يجمع بين الحياد الإيجابي وبين أهمية بقاء المناطق والتجمعات الفلسطينية مناطق آمنة للجميع.

أخيراً، إن وعي الفلسطينيين في سوريا، وارتقاءه وسموه، يُشكّل الآن سلاحاً هاماً للنأي بهم عن مسارب مخيفة ومظلمة لا سمح الله في أزمات طاحنة تعيشها المنطقة ككل ومنها سوريا على وجه الخصوص. ويدفع بهم هذا الوعي الراقي في سموه وفي نباهته وحذقه الرفيع لمساعدة سوريا وشعبها الشقيق من أجل وقف نزف الدماء.

فالحكمة تقضي أن يبقى اللاجئون الفلسطينيون في سوريا خارج معادلة الأزمة السورية لا لأنهم لا يأبهون لما يجري في سوريا الشقيقة، بل لأن دخولهم في آتون تلك الأزمة من شأنه أن يضيّع اتجاه بوصلتهم، ويعقّد المشهد السوري أكثر ولا يقدم أي مساعدة للشعب السوري ولسوريا، ولا يخدم على الإطلاق مشروع التغيير والإصلاح في سوريا.

المصدر: جريدة المستقبل العربي