القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

فلسطين التي تختفي رويداً رويداً

فلسطين التي تختفي رويداً رويداً

بقلم: سمير الزبن

شكلت فلسطين، لسنوات طويلة، منارة لكل من يبحث عن المستقبل، على الرغم من المأساة التي عاشتها البلاد، وكانت قضية القضايا في المنطقة. ارتبطت كل القضايا المصيرية في المنطقة (عن حق أو عن باطل) بتحقيق الحلم باستعادة فلسطين. كانت فلسطين، على الدوام، أكبر من جغرافيتها، وأكبر من شعبها، مكان تحول إلى "قضية"، واستحال إلى رمز صنعه الخيال، ورفعه إلى مراتب التقديس. فهذه القضية شغلت العالم العربي على المستويين، الرسمي والشعبي، وإذا كان التعاطف والبذل الشعبي قد وصل، في حالاتٍ كثيرة، مع القضية الفلسطينية، إلى مستويات لا تصدق. في المقابل، وصل التوظيف الرسمي السلطوي لها في العالم العربي، أيضاً، إلى درجات لا تصدق، ولو كان من موقع النقيض، موقع استخدام القضية الفلسطينية ورمزيتها من أجل تعزيز السلطات وتبرير القمع الشامل وتدمير المجتمعات المحلية.

كانت النكبة في العام 1948 عنواناً لانكسار المستقبل العربي. وعلى المستوى الفلسطيني، شكلت تدميراً للوطن والمجتمع الفلسطينيين. وبات التاريخ الوطني الفلسطيني والتاريخ القومي العربي بعدها مختلفاً عما سبق، بحيث شكلت النكبة حدثاً تأسيسياً في الواقعين، الفلسطيني والعربي، وانقطاعاً تاريخياً ذا بعد تحولي، ليس فقط لأنه رسم خريطة جديدة للمنطقة، وأوجد واقعاً سياسياً ضاغطاً على الجميع في المنطقة. بل لأنه شكل انقطاعاً ثقافياً وتحدياً أيضاً، لا تكفي الإجابة عنه سياسياً، بل بات بحاجة إلى إجابات ثقافية، تجيب عن سؤال: لماذا هُزمنا ولماذا انتصروا؟ وهو ليس سؤالاً عسكرياً، بقدر ما هو سؤال بنى مجتمعية.

في لحظة من لحظات تاريخ المنطقة، ظهر المشروع القومي وكأنه رد على هذا السؤال، ورد على الهزيمة أيضاً. وباتت استعادة الحلم الفلسطيني مسألة وقت ليس إلا، فالعملاق العربي خرج من القمقم، ولا أحد يستطيع إعادته، فهذا العملاق هو الذي سيعيد المنطقة إلى سياقها الطبيعي، وسيعيد للعرب كرامتهم وحريتهم وأرضهم السليبة. لكن الحكاية أخذت مساراً آخر في العام 1967، فإذا كان المشروع الصهيوني قد هَزَمَ عند تأسيسه جيوش الدول العربية المستعمرة، أو الخارجة حديثاً من الاستعمار، فإنه في 1967 هزم المشروع المستقبلي العربي، على افتراض أن المشروع القومي كان يجيب عن أسئلة المستقبل. إن تسمية هزيمة العام 1948 "النكبة" وهزيمة العام 1967 بـ "النكسة"، كان تعبيراً عن العجز في مواجهة المشكلة، حتى من خلال الاعتراف بحقيقة ما حصل، فالتسميتان اللتان أطلقتا على الحدثين المفصليين، احتياليتان، حاول أصحابهما حجب الواقع، وبالتالي، استخدمتا للتغطية على ما جرى، وليس من أجل مواجهته. وتعبير "النكسة" الذي نحته الصحفي المصري محمد حسنين هيكل مصطلحاً تبريرياً، يبرر بقاء السلطة بعد هزيمتها، وأن ما جرى ليس سوى نكسة صغيرة إلى الوراء، وهذه النكسة لن توقف المشروع القومي. وبذلك كان المشروع القومي ما زال مستمراً، وأنه سيتجاوز نكسته، وسيرد على العدوان، وسيستعيد الأرض التي سلبت لاحقاً وسابقاً، لكن المشروع القومي بدأ يدخل المستنقع بعد هزيمة العام 1967، وبعد الحرب 1973 التي اعتبرها أصحاب المشروع القومي رد اعتبار، على الرغم من أنها لم تستطع أن تستعيد أي أرض تذكر. أخذ المشروع القومي بعدها بالاستنقاع والتعفن. واستحال إلى معاهدة صلح، لم تحل المشكلات العالقة، ولم تستعد الحقوق التي سلبت. وبات التكيف مع سلب الحقوق هو المقولة القومية التي راجت منذ السبعينيات، باعتبارها نصراً، ودخلت الأنظمة الأخرى في العراق وسورية، في حالة سلطوية قمعية، ذهبت بعيدا في تدمير بلديها.

مع تصدع المشروع القومي، وفشله في التصدي للمهمات التي ألقاها على نفسه بالنسبة للقضية الفلسطينية، كان الرد الوطني الفلسطيني بأولوية الوطني على القومي في التعامل مع القضية الفلسطينية، مع إنجازات رمزية، مثل معركة الكرامة 1968 التي تصدى فيها مجموعة من الفدائيين لقوات إسرائيلية كبيرة نسبيا. كانت أسطورة الوطني وقدرته على إنجاز تحرير كامل التراب الفلسطيني، وأن تحرير فلسطين هو الذي يحقق الوحدة العربية، على عكس الادعاء القومي الذي راج قبل انطلاق الوطنية الفلسطينية من جديد مع العمل المسلح الفلسطيني الذي ازدهر بعد هزيمة 1967. وقد تم تضخيم قدرة المشروع الوطني الفلسطيني، بإسناد كل مهام المشروع القومي إليه، الذي نجح في إعادة الوجود الفلسطيني على الخريطة السياسية في المنطقة، وحمل الهم الفلسطيني، وجعل الشعب الذي حاول المشروع الصهيوني تكنيسه تحت سجادة المنطقة جزءاً اساسياً من معادلة المنطقة. ولكن، كانت مهمة التحرير الكامل للوطن السليب أكبر من قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية. لذلك خلال سنوات قليلة، وبفعل الوقائع التي أخذت تتكرس على الأرض، بدأت حركة التحرر المحلقة في سماء الحلم، تنزل الى أرض الواقع، لتتحول إلى عضو في النظام العربي الرسمي، ومن ثم تبحث عن آلية للتكيف مع ممكنات المعطيات السياسية في المنطقة، وبدأ البحث مبكراً بعد حرب 1973 عن كيفية دخول حركة التحرر في إطار التسوية المحتملة، بعد تلك الحرب، فكان الشعار الشهير ببناء "السلطة الوطنية" على أي جزء يتحرر من فلسطين، وكان هذا الشعار مدخلاً لتحويل حركة التحرر إلى جزء من آليات عمل المنطقة وقواها الإقليمية. كان يجب تأديب الحركة الفلسطينية مرات حتى تتكيّف، وكان التكيّف النهائي بتوقيع اتفاق أوسلو الذي أدخل منظمة التحرير إلى وطنها سلطة، من دون أن تتحرر هذه الأرض، ومن دون أن يتم الاعتراف بأن الأرض التي تقيم سلطتها عليها أرضها، على الأقل، ليست أرضها بعد، بل هي "أراض متنازع عليها". لم يكفِ التسوية التي تم تصميمها في المنطقة، والعاجزة عن استكمال تحققها على أرض الواقع، أن يتنازل الفلسطينيون عن 78% من وطنهم التاريخي. ولم يسمح لهم في بناء دولتهم على الجزء البائس المتبقي من الوطن، فطالت المفاوضات سنوات، واستطالت السلطة الانتقالية، وتحولت إلى سلطتين متقاتلتين، كل منهما، ترهن بشراً لا ذنب لهم من أجل الضغط على الطرف الآخر. وتحولت المفاوضات من أجل ذاتها من دون أن تذهب إلى أي مكان.

في تاريخه، كان مسار فلسطين الحلم محزناً، من المشروع القومي إلى المشروع الوطني إلى المشروع الإسلامي، أخذت فلسطين القضية والرمز تتآكل، وتفقد بريقها، وتتحول إلى قطعة سلطة غير مكتملة، يتناهشها أبناؤها، واضعين النقطة الأخيرة في مسار انكسار فلسطين بوصفها حلماً.

المصدر: العربي الجديد