فلسطين امتحان الإسلاميين
بقلم: سيف دعنا
«في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك» سفيان الثوري
كان لإعادة تخيّل الإسلام في سياق المواجهة مع الكيان الصهيوني، تأثير كبير على صيغة المشروع الإسلامي الذي انتج منذ بداية الثمانينيات، ربما، أحد أهم أشكال المقاومة وأكثرها فاعلية في تاريخ المنطقة الحديث، وساهم في تغيير صورة بعض الإسلاميين السلبية التي سادت بفعل تحالف بعضهم مع أكثر الأنظمة تخلفاً ورجعية وعداءً لمشروع وحدة الأُمة العربية. وإعادة التخيّل (الثوري المناهض للصهيونية وللمشروع الإمبريالي الغربي) تلك، هي التي أسست للتقارب الإسلامي ــ القومي ــ اليساري الذي شهدته المنطقة العربية في مرحلة ما قبل الثورات، وما قبل إعادة الاصطفاف السياسي المُسْتَجدة في المنطقة. وكان لذلك التخيّل المناهض للصهيونية والإمبريالية الغربية، دور ملحوظ في تحدّي وتهميش رؤية مجتمعاتنا من منظار المذهبية والطائفية التي تتوافق مع أكثر المقولات الأيديولوجية الاستعمارية عنصرية، وتستخدم لتبرير استعمار أوطاننا وتدميرها. وقبول هذه النظرة المريضة من بعض القوى المحلية لا يُسَهِّل تعميم التفكير بالشرق بعقل استعماري غربي يرى مجتمعاتنا كتشكيلات ما قبل حديثة وقبل دولتية ويخرج أُمتنا من التاريخ فقط، بل كانت ولا تزال أيضاً أحد أسلحة محاربة كل محاولة للمقاومة والثورة. لذلك، سيكون أيّ تراجع في الموقف من الكيان الصهيوني (وتراجع مكانة فلسطين في المشروع الفكري الإسلامي) وأي استدعاء للمذهبية والطائفية ليس تعارضاً مع روح الثورات العربية فقط، بل أيضاً ارتداداً فكرياً عن مشروع الإصلاح والتجديد الإسلامي. هذه محاولة مختصرة لقراءة تصريحات وأداء بعض الإسلاميين في الثورات العربية في سياق تاريخ مشروع الإصلاح الذي بدأ مع جمال الدين الأفغاني.
عن الصعود
لم يستند صعود الإسلاميين فقط إلى غياب وتغييب القوى الأُخرى (تحديداً اليسار العربي) وَخُلُوّ الساحة بالتالي من المنافسة الجدية. ولم يرتبط كذلك حصراً بطبيعة الثقافة الشعبية السائدة والهوية الدينية للغالبية العددية (التي يُنَظِر لها بعض من لا يزال بِفِكْرِه خارج التاريخ والسياسة على أنّها غالبية سوسيولوجية وسياسية) والتي يعتقد البعض أنّها شكلت البنية التحتية لمشروع هيمنة الخطاب الإسلامي. فانتشار المساجد والثقافة الشعبية المنحازة إسلامياً، وحتى الهوية الدينية للغالبية العددية لم تمنع هيمنة التيار القومي أو اليساري سياسياً وثقافياً، حين كانا فاعلين في مراحل سابقة، ولم تضمن حتى منع انتشار وسيادة صور سلبية لبعض الإسلاميين.
كلا العاملين السابقين يمكن أن يكونا قد سَهَّلا صعود الإسلاميين، كما جادل البعض، لكنهما لا يؤهلان وحدهما لتشكيل، أو الهيمنة على، الخطاب العام. ففيهما تغييب تعسفي لعاملي الفعل (المقاومة تحديداً) والفكر اللذين أسّسا لهيمنة الاسلاميين. فنشاط وفعل بعض الإسلاميين ترافق مع صيغة متخيلة جديدة للمشروع الإسلامي (كامتداد لمشروع الإصلاح)، تميّزت بالفصل بين الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي، وانحياز المشروع الفكري لتخيّل ثوري للمشروع الإسلامي مضاد للصهيونية والمشروع الإمبريالي الغربي. وهو ما يعني بالضرورة مركزية مكانة فلسطين ونبذاً مطلقاً للمذهبية والطائفية في المشروع الفكري الإسلامي، ويعني أيضاً الاقتراب من مفهوم الأُمة بالمعنى القومي، وبالتالي اللحاق بالتاريخ والدخول في عالم السياسة. وهنا يكمن مصير الهيمنة الإسلامية المحتمل والممكن ــ باستمرار تطور الفكر والفعل الأسلامي وثوريتهما.
بعض المساهمات الفكرية الإسلامية ذات التأثير الثوري في إعادة تخيل الإسلام لم تأتِ أساساً من أشخاص ذوي خلفية فقهية، بل من خلفيات فكرية وأكاديمية. فبعض أكثر الإسلاميين ثورية في تأويلهم للمشروع الإسلامي مثل مالك بن نبي، وعلي شريعتي، ومالكولم إكس، وحتى محمد إقبال، لم يُعرفوا بخلفية أزهرية أو نجفية مثلاً، بقدر ما شكّلت معرفتهم بالفلسفة وانفتاحهم على تجارب الشعوب الاخرى، وكسرهم لاحتكار الإسلام من قبل فقهاء السلطة، أساساً لإعادة تركيب ثوري للمشروع الإسلامي ــ كما جاء في عنوان كتاب، المُجَدِّد الأهم ربما، محمد إقبال مثلاً. فيمكن لمفهوم علي شريعتي، مثلاً، عن الانسان، أو فكرته عن الإنسان في الإسلام، أن تثير حنق الكثيرين من فقهاء السلاطين، وربما حتى اتهامه بالزندقة (رغم أنّ هناك زندقة ذات مضمون إنساني مناهض لسلطة المال والدولة، كما أشار هادي العلوي في تشخيصه لحالتي التابعي عامر العنبري والفرزدق مثلاً) من قبل من سماهم طه حسين في دفاعه عن المعري (الذي يبدو أنّه تأثر بزندقة عامر العنبري المتمردة، كما أشار العلوي) بأصحاب العقول الصغيرة. فأكبر «قيم الإنسان» يقول شريعتي «تلك التي بدأ منها، وهي الرفض و«عدم التسليم» وما يلخص بكلمة «لا» حيث منها بدأ آدم أبو البشر. لقد اُمر ألّا يأكل من تلك الثمرة، لكنّه أكل، فصار بعدئذ آدم، وصار بشراً، وهبط الى الأرض، ولولا ذلك لصار ملكاً، وصار غيره آدم» (النباهة والاستحمار، ص: 18 ــ 19).
ولم يُغفل شريعتي أيضاً التحذير من تأثيرات الحياة الحديثة (والرأسمالية)، وإمكانية تطويعها لهذه الطبيعة الجوهرانية الأصيلة المتمردة للانسان كما رآها هو: فأول «ما يبدء آدم بهدمه في حياته (الحديثة) اليومية»، يقول شريعتي، هو «التمرد»، وهذه الرؤية الثورية للإنسان، رغم لا تاريخيتها أو افتراضها لطبيعة إنسانية عابرة للتاريخ، لا تختلف كثيراً عما ذكره هادي العلوي عن قيم «اللقاحية العربية» الرافضة للتسلط (ذكرها عامر محسن بطريقة ممتعة أكثر في «الأخبار» سابقاً)، إلا بِكَوْن العلوي ربطها بطريقة حياة العرب ووضعها في سياق اجتماعي تاريخي، ولم يعتبرها حقاً صفة إنسانية أصيلة (انظر: شخصيات غير قلقة في الإسلام، تاريخ التعذيب في الإسلام). وأيضاً لا تختلف بتمجيدها للتمرد والثورة كثيراً من مديح الشاعر المصري الفذ أمل دنقل للشيطان في «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» لرفضه الركوع، كما جاء في تأويله للقصة القرآنية: «المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال لا/ في وجه من قالوا نعم».
وما يميّز بعض تلك المساهمات الفكرية، غير الفقهية، في فهمها لإشكال النهضة ويؤسس لثوريتها، هو أنّ محاولة الربط العقلانية للعامل الموضوعي (الاستعمار الغربي) والعامل الذاتي (الانحطاط الحضاري) تستند رغم مرجعيتها الإسلامية إلى التطوّر الفلسفي الإنساني بهدف تثوير الذات العربية أو المسلمة. فحين يخاطب مالكولم إكس أتباعه بالسؤال: «من علّمكم أن تكرهوا من أنتم ومن تكونون، من علمكم أن تكرهوا مَلمَس شعركم، ولون بشرتكم»، ثم يؤكد أنّ الجريمة الكبرى ليست في كُرْه الآخر، بل تعليمه أن يَكْره ذاته، كما فعل ويفعل الرجل الأبيض في حملات التطهير الثقافي، فهو كان يعيد طرح مفهوم «القابلية للاستعمار» عند مالك بن نبي أو «المَرْكوبية» أو «الاستدمار» عند مولود بلقاسم أو «الاستحمار» عند شريعتي، ومصطلحات أخرى من معجم العربية لتوصيف حالة نفسية ــ اجتماعية انتجتها جدلية الاستعمار والانحطاط الحضاري.
لكن، قد يكون محمد إقبال الأكثر وضوحاً في كتابه غير الشعري «إعادة بناء الفكر الديني الإسلامي»، الذي أُسيئت ترجمة عنوانه للعربية عمداً، كما يبدو، حتى لا يثير حنق أصحاب العقول الصغيرة، فأصبح «تجديد الفكر الديني». يكرر إقبال فكرة سبقه اليها ابن سينا وابن رشد حول أولوية الفلسفي على الديني، أو محاولة توفيق الفلسفي (فلسفة أرسطو في حالة ابن رشد) مع الديني (فكرة الوحي). وإقبال، كما قال، حاول إعادة بناء الفلسفة الإسلامية من جديد «آخذاً بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الاسلام، الى جانب ما جرى على المعرفة الانسانية من تطور في نواحيها المختلفة». مع تأكيده أيضاً أنّ «التفكير الفلسفي ليس له حد يقف عنده، فكلما تقدمت المعرفة، وفتحت مسالك للفكر جديدة، أمكن الوصول الى آراء أخرى غير التي اثبتها في هذه المحاضرات، وقد تكون أصح منها» (تجديد الفكر الديني، ص: 3 ــ 5).
الردة السياسية
حَفلَت الفترة الأخيرة بحملة من التطمينات أطلقها ممثلو بعض الحركات الإسلامية في مصر وتونس حول الموقف من الكيان الصهيوني تحديداً، ومستقبل العلاقة معه، تتناقض مع مواقف سابقة معلنة لهذه الحركات والأشخاص وتتناقض مع مواقف شعوبهم من جهة، ومكانة فلسطين في المشروع النهضوي والإصلاحي من جهة اخرى. ربما كانت تصريحات بعض قادة الاخوان المسلمين في مصر، الملتبسة في أحسن الأحوال، عن مستقبل اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة هي الأكثر تداولاً. لكن اللافت والمزعج أنّ إطلاق بعض تلك التصريحات والمواقف، كان في محافل صهيونية بامتياز: كلمة الغنوشي في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وحديث ممثل حزب النور «السلفي» في مصر على إذاعة الجيش الصهيوني. القسم الآخر من المواقف تميّز بإعلان الالتزام بـ«الاتفاقيات الدولية» (تصريحات رئيس الوزراء التونسي الجديد حمادي الجبالي، وما يتردد عن صفقة الاخوان في مصر مع المجلس العسكري والجنزوري) التي وقعها المخلوعون مع المؤسسات الدولية أو الاستعداد لمواصلة العمل معها (البنك الدولي وصندوق النقد)، رغم كونها سبب أغلب مصائب مجتمعاتنا العربية. هذه التصريحات، والأهم، بعض الممارسات التي تعمل على الحد من مفاعيل بعض الثورات والوقوف قريباً من قوى الثورة المضادة (كما يحدث في مصر الآن) يجب الّا تقرأ من قبيل قلّة الخبرة السياسية أو حتى من قبيل التقية (غضب الغنوشي على معهد واشنطن مبنيّ على افتراضه أنّ ما قاله لم يكن للنشر ــ يُمْكِن سماعه على يوتيوب لمن يهمه الأمر).
خطاب بعض الإسلاميين خلال الثورات العربية وفي أعقاب نجاح المرحلة الاولى (تونس ومصر) بإسقاط رأس النظام، يشير إلى تراجع في التفكير الإسلامي السائد. بشكل أدق، الخطاب الجديد بدأ يشير إلى إعادة تخيّل للمشروع الإسلامي عند البعض، لا يماثل في تراجع تَصَوره المُسْتَجَد للإسلام، حتى ما ساد في أكثر مراحل مشروع الإصلاح تراجعاً فقط، بل يشكل ارتداداً (فكرياً وسياسياً)، عليه ويتناقض في ما يمثله من توجهات مع مشروع الإصلاح وروح الثورة العربية. كيف نُفسر استدعاء المذهبية المقيتة ضد ثورة البحرين (حيث لم تُقمع الثورة بدموية فقط، بل أرادوا محوها من الذاكرة بإزالة دوار اللؤلؤة من الوجود)، وقراءة الثورة السورية من منظار مذهبي مريض، والتقرب من الكيان الصهيوني ــ هل هو التقرب للغرب ذاته الذي مارسه المخلوعون؟ ــ والهجوم على المقاومة، سوى بالخضوع لتأويل الإسلام وتطويعه وفق رؤية النظام السعودي السياسية. ذلك هو النظام ذاته الذي أفشل انعقاد مؤتمر القمة العربي أثناء المجزرة الصهيونية في غزة، وشارك في الهجوم على المقاومة في لبنان أثناء حرب تموز، وأرسل جيشه لقمع الثوار في البحرين، وحاول ويحاول إفشال الثورة المصرية واليمنية. استخدام حجة اعتراف بعض الفلسطينيين والعرب بالكيان الصهيوني كمبرر للتراجع في الموضوع الفلسطيني (كما استخدمها الغنوشي في معهد واشنطن) لا تتعارض فقط مع مواقف البعض السابقة، بل وأيضاً مع بعض حججهم لمعارضة أنظمة المخلوعين.
يبقى أنّ التغيير في التفكير غير معزول عن الصراع في وعلى الثورات العربية، القائمين بشدّة حالياً، وغير معزول عن إعادة الترتيب الطبقي والاصطفاف السياسي المعبران عن ديناميكية الثورة ــ الثورة المضادة. وفي كلّ الأحوال، هذا يدعو، على الأقل، إلى التساؤل حول مدى التزام بعض الإسلاميين ليس فقط بأهداف الثورات العربية الحقيقية (التغيير الجذري في كلّ المجالات) بل ومشروع الإصلاح الإسلامي حتى النهاية.
إصلاح الإصلاح
تجربة جيل الاسلاميين الإصلاحي الأول تفيد بأنّ تراثاً رائداً متمرداً من وزن جمال الدين الأفغاني لم يستطع وقف الانهيار اللاحق (تماماً كما لم يستطع ابن رشد إنقاذ الفلسفة العربية من تبعات هجوم الغزالي على ابن سينا والفارابي). والأفغاني، المفكر الثوري المتمرد، لا يمكن أن يقاس أو يقارن بأي من فقهاء النفط (كان صاحب «الفتوحات المكية» الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قد وصف أمثالهم، محقاً، في زمنه بـ«فراعنة الأولياء ودجاجلة العباد»). فليس هناك أي مبالغة في وصف الأفغاني بـ«موقظ الأُمة»، كما رآى محمد عمارة مثلاً. فمعه كانت احدى أهم المقاربات النهضوية لمشاكل الأُمة التي لا يزال الكثير من المفكرين العرب والإسلاميين يعتمدونها ويبنون عليها في كل مشاريعهم الفكرية، وإن بمرجعيات مختلفة. لكن هذا المشروع تَعَثّرَ لاحقاً، مما تطلب من مفكري الأجيال اللاحقة لجيل المصلحين الأوائل العمل ليس على المضي في الإصلاح، بل إصلاح الإصلاح أولاً.
فالجيل الأول الذي حاول استيعاب الطاقة الثورية الهائلة التي عبّر عنها مشروع الأفغاني بتأسيسه لإعادة تخيّل المشروع الإسلامي في سياق مواجهة الاستعمار والتأسيس للمشروع التحرري بمرجعية إسلامية، انتهي رغم بعض الإنجازات أحياناً (وليس دائماً) الى نشاط فقهي وتربوي ــ نخبوي (محمد عبده). وفيما تميّز هذا المشروع أحياناً بمصطلحات إسلامية بَدَتْ أصيلة في الشكل، كانت مرجعيتها الفكرية غربية الأصل في الجوهر (رشيد رضا). ربما تكون الحالة الثانية وفشل استيعاب (يستخدم هنا عادة مفهوم التأصيل، لكنّه غير ممكن) التطوّر الفلسفي، أحد أسباب استدخال بذور الهيمنة الاستعمارية الغربية في بنية الفكر العربي ــ الاسلامي التي قد تفسر جزءاً من الارتداد الحالي.
المشكلة الأولى، كما انتقدها المفكر الجزائري مالك بن نبي والايراني علي شريعتي (وقبلهما محمد إقبال، وإن بصيغة مختلفة) كانت تتمثل بالاعتقاد ان المشكلة هي إثبات وجود الله لجمهور من المسلمين مؤمنين أصلاً بالله، بدل العمل على تفعيل الطاقة الثورية والتغييرية الممكنة في إعادة تخيل المشروع الإسلامي في سياق مواجهة الحملة الاستعمارية الغربية. فليست «المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يمتلكها، بل المهم أن نرد الى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الايجابية، وتأثيرها الاجتماعي»، كما رأى بن نبي (وجهة العالم الإسلامي، ص 54). ذلك ما قصده مالكولم إكس بقوله إنّ «الإسلام ليس دين شخص، بل دين مجتمع»، وما قصده شريعتي بالدعوة إلى استرداد القرآن الكريم «من القبور والمعازي الى الحياة وتفاعلاتها». وما قصده محمد إقبال (والسيد محمد حسين فضل الله لاحقاً) بقوله «القرآن الكريم كتاب يعنى بالعمل أكثر مما يعنى بالرأي».
كان جوهر الخلل في هذه الرؤية هو تغليب الفقه على الفكر. فهذا الفهم استند الى خلل لا تزال آثاره ظاهرة لدى بعض الإسلاميين، وهو الخلط بين الفقه والفكر وسوء فهم الوظيفة الاجتماعية والتاريخية للدين (وهو ما يقزم الفكر والمشروع النهضوي الى مسائل الحلال والحرام (الطهطاوي) كما في التعاطي السطحي مع الحداثة ومنتجاتها). جوهر الخلل أيضاً هو في اعتبار الإصلاح والنهضة (والتعبير عن الوظيفة الاجتماعية والتاريخية للدين) مسألة فقهية بحتة، لا مشروعاً فكرياً أساساً (بمرجعية إسلامية في هذه الحالة) مع انفتاح على تطوّر الفلسفة الإنسانية كما جادل محمد إقبال. وبن نبي كان يرى ضرورة مقاربة مشكلة الاصلاح مقاربة حضارية لا تستند الى الرؤية الغربية البحتة ولا الى رؤية تنفصل عن الحياة الانسانية والشروط الكونية، فكلا الخطين خرجا عن مسار النظام الكوني («شروط النهضة»، «وجهة العالم الاسلامي»، «الفكرة الافريقية الآسيوية»). هناك فرق كبير، كما أشار بن نبي في «وجهة العالم الإسلامي» بين «تطهير النفس (من خلال التصوف مثلاً) وبين الإصلاح من أجل النهضة» (ص:54).
ذلك الخلط بين الفقه المتخصص بقضايا العبادات والمعاملات أساساً، والفكر المتعلق بإشكال النهضة وقضايا المجتمع والحياة المتحركة والمتغيرة أبداً (أو اعتماد أولوية الفقه على الفكر) هو أحد مؤشرات التراجع، وهو ما يقود الى الاعتقاد الخاطئ بأهلية ذوي المعرفة بشؤون العبادات والمعاملات (كالوضوء، الصلاة، البيع، الإيجار) لإدارة شوؤن مجتمع معقد ومتغير باطراد (يمكن ملاحظة هذا الخلل حين يُعَلق أو يفتي أصحاب «الفقه السريع» بِسُلطَوِية وجُرأة غريبتين، وفقط عبر ترديد مقولات ايديولوجية، في موضوعات في السياسة والاقتصاد والاجتماع يتردد أكثر الخبراء في الحسم فيها).
أما المشكلة الثانية، فهي مرجعية المفاهيم والمصطلحات الفكرية المتداولة. فالمفاهيم كما لاحظ بن نبي، مثلاً، ليست دلالات لغوية بحتة، بل تحمل ذاكرة حضارية، وتعكس وعياً جمعياً وتجربة تاريخية، ويمكن أن تشكل أساساً لاستدخال الهيمنة الغربية الاستعمارية (مثل استيراد مفهوم الأقليات ثم فهمه عددياً، لا سياسياً أو سوسيولوجياً، وكتابة الدساتير على أساسها ما يجعل الدستور أقرب إلى قنبلة موقوتة كما نرى في العراق). ولهذا وجد صاحب «مشكلة الثقافة» في تناوله لموضوع النهضة ضرورة لإعادة تعريف مفهومي الحضارة والثقافة بمرجعية عربية ــ إسلامية، لكونهما، كما يجري تداولهما، يعكسان أساساً تجربة تاريخية غربية. تلك هي الفكرة ذاتها التي عبر عنها عبد الوهاب المسيري في مديحه لتطوّر الفهم لدى الخطاب الإسلامي الجديد الذي ينقلب عليه البعض الآن. فالذين «يتبنون الخطاب الإسلامي الجديد يدركون أنّ المفاهيم في المعجم الغربي ليست بسيطة، بل جزء عضوي من معجم ثقافي معقد يحدد مضمون ومعنى المفردات» (عبد الوهاب المسيري: من أجل خطاب إسلامي جديد). يعني ذلك أنّ صعود (أو تعثر) المشروع الإسلامي، ارتبط بتخيله للحالة الاستعمارية الغربية وأداتها اسرائيل، ورفضه للمقولات الأيديولوجية الاستعمارية التي يتبناها الطائفيون والمذهبيون عن جهل مفرط عادةً.
لكن المعرفة الفقهية العميقة وحدها لا تؤهل صاحبها خبرة تفكيك المرجعيات الحضارية والثقافية للأفكار الفلسفية والبناء عليها للمساهمة في إنجاز مشروع النهضة. وفي زمن سيادة «ألفية ابن سعود» وإعدام «ألفية ابن مالك» ودفن «لسان العرب»، كما نرى في خطابات الأُميّين من حكام العرب، يبدو أنّ التعامل مع الأفكار والمفاهيم حتى كدلالات لغوية، من قبل اصحاب «الفقه السريع» حصراً صعباً أيضاً. الإسلاميون أمام امتحان جدي. وحتى لا يخسروا ما أنجزوه، عليهم حماية مشروعهم وحماية الإسلام، ليس فقط من القوى الاستعمارية الغربية التي تستهدف تطويعه واحتواء إمكانيه تأويله الثورية، بل وأيضاً تحريره من تأويلات أنظمة النفط التي لا تعمل إلا على ترسيخ حالة «المركوبية» التي تثور عليها شعوبنا. حماية الإسلام تبدأ بتحريره من هيمنة هذه السلطات وفضح فقهاء السلاطين. سفيان الثوري، أمير المؤمنين في الحديث، كما كان يُكَنّى، قال مرة: «من تبسم في وجه ظالم وأوسع له في المجلس أو أخذ من عطائه فقد نقض عرى الإسلام وكُتِبَ من جملة اعوان الظلمة».
* أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدوليّة في جامعة ويسكونسن ــ بارك سايد
المصدر: جريدة الأخبار