القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

فلسطين تكسب في المطبخ والبرلمان

فلسطين تكسب في المطبخ والبرلمان

بقلم: أمجد ناصر

حادثتان فلسطينيتان، غير مرتبطتين ببعضهما، وقعتا في أسبوع واحد، وفي قارتين، لكنهما تعكسان تمخّضاً واحداً: الأولى، غضب "الرابطة اليهودية" في مدينة بيتسبرغ الأميركية من "مطبخ الأزمة" لتقديمه لائحة طعام فلسطيني في "ثيمته" للأشهر الأربعة المقبلة. وهذا مطعم أميركي مبتكر، يشتغل على "مطابخ" الشعوب التي تعيش حالة أزمات مع الولايات المتحدة، وهو، بهذا المسعى، يصيب عصفورين سمينين بحجر واحد: "القضية" والربح، جسر الهوَّة، وامتلاء الصندوق بالكاش! وسبق أن قدَّم، في هذا السياق، المطبخ الكوبي، الإيراني، الأفغاني، الفنزويلي، الكوري الشمالي وغير ذلك.

غضب الرابطة تمَّ تعليله منطقياً، كي لا يأخذ شكل هوس "اللاسامية" المعتاد، فهم لم يغضبوا لأن مطعماً قدَّم لائحة طعام فلسطينية، أو اشتغل على المطبخ الفلسطيني، بل لأن هذا "المطبخ" قُدِّم باعتبار شعبه يعيش أزمة مع أميركا، وليس هذا حال الشعب الفلسطيني وحكومته، فأبو مازن رائح إلى البيت الأبيض وغادٍ، وسلطته مموّلة، جزئياً، بأموال دافعي الضرائب الأميركيين، فأين الأزمة؟!

لا توجد أزمة بين السلطة الفلسطينية وواشنطن، ولا تتجرّأ السلطة، إن أرادت، على فعلها. لكن، ما لم يقله وجهاء "الجالية" اليهودية في بيتسبرغ، وما خافوا أن يفضحه الطعام الفلسطيني، أنَّ واشنطن في حالة حرب مع فلسطين، وليست في حالة "أزمة"، بالمعنى السياسي للكلمة. فبدعمها المطلق إسرائيل، تكون الولايات المتحدة في حالة حرب مع الفلسطينيين، بفتحها ترسانتها العسكرية لجيش "الدفاع" الإسرائيلي على مصراعيها، تكون شريكة له في جرائمه.

هل هذا ما أرادت إدارة "مطبخ الأزمة" أن تقوله، من دون بيان سياسي ليس من شأنها؟

في لحظة زمنية سابقة، وما لم يكن ممكناً لأشجع مطبوعة، جامعة (وليس مطعماً) أن تضمِّن نشاطها ما يشير إلى وجود فلسطين، أرضاً وبشراً ومطبخاً (= بعداً ثقافياً وحضارياً، وليس حشو بطون) صار ممكناً جداً الآن.

أحد الذين علّقوا (عشرات فعلوا) على الموضوع الذي قرأته في موقع أميركي قال إن غضب وجهاء يهود بيتسبرغ يتعلّق بما يعكسه تقديم المطبخ الفلسطيني للمواطن الأميركي من "أنسنة" الفلسطينيين، وإخراجهم من التجريد إلى التجسيد. فإبقاء الفلسطينيين شبحيين (تذكروا مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!) في ذهن هذا المواطن، أو ذوي حضور سلبي، يصبُّ في طاحونة النواح الإسرائيلي، والخوف من العرب الذين سيرمونهم في البحر. هناك شيء يحصل في الرأي العام الغربي. هناك قرف من غطرسة إسرائيل. هناك تعب من دفع المليارات لها. هناك تساؤل عن جدوى بقاء هذه القلعة الأمامية المكلفة. أقول مجرد تساؤل. ومن التساؤل يبدأ الجدّ.

الحادثة الثانية كبيرة، رغم محاولات التقليل من شأنها يهودياً وإسرائيلياً، هي تصويت مجلس العموم البريطاني على الاعتراف بدولة فلسطين التي لم توجد، رسمياً، بعد. فرحة المصوّتين، أعضاء مجلس العموم من مختلف أحزابه، تُعادل، إن لم تبزّ، فرحة النشطاء وقوى المجتمع البريطاني، اليسارية والليبرالية وذوي الضمائر الحية، الذين عملوا طويلاً من أجل هذا اليوم. كأن هناك أثقالاً كبيرة، مزمنة، تخلّصت منها ضمائرهم. صحيحٌ أن هؤلاء الذين صوّتوا على الاعتراف بدولة فلسطين (العتيدة) لن يحرروا فلسطين، لكنهم حرَّروا أنفسهم ممّا يشبه الإثم. كانوا يعرفون أنهم آثمون، وأنهم شركاء في الجريمة، وأن جريمة فلسطين التي ارتكبتها حكومة بلادهم، قبل نحو قرن، لا مثيل لها في تاريخ البشرية، فلم يحصل أن أُعطيت بلاد، بأرضها وسمائها وبحرها وجبالها ومقابرها وآثارها ومعابدها.. وشعبها، إلى "شعب" آخر.

لن يعيد اعتراف مجلس العموم البريطاني فلسطين إلى أصحابها، ولن يرجع التاريخ إلى الوراء، لكنه يرمي حجراً ثقيلاً في بركة راكدة، ويطرح أسئلة على الحاضر، وعلى التاريخ نفسه. وبطرح الأسئلة الصحيحة على الواقع يبدأ الجدّ.

المصدر: العربي الجديد