فلسطين.. ثورة لا تشيخ
بقلم: عمر حرقوص
حين صرخت الفتاة الصغيرة أمام مبنى "الاسكوا" في وسط بيروت، "بو عمار صرح تصريح.. يا جبل ما يهزك ريح" كانت الدبابات الإسرائيلية تحكم سيطرتها على "المقاطعة" في رام الله، حيث اشتد الحصار الخانق على ياسر عرفات ورفاقه في قيادة حركة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية، حصار خانق أتى اثر ساعات قليلة من انتهاء القمة العربية في بيروت التي رفض فيها الرئيس اللبناني اميل لحود بدعم من الرئيس السوري بشار الأسد إلقاء أبو عمار لكلمته عبر شاشة التلفزيون بشكل مباشر من مقره المحاصر.
الفتاة الصغيرة في العام 2002 لم تكن أمها وأبيها قد ولدا في العام 1965 حين أطلقت حركة فتح، ولكنهما عاشا في كنف بيتين فلسطينيين شهدا تخبئة الفدائيين الفلسطينيين قبيل انطلاقهم في عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي في الداخل، وجدها له صورة يقف فيها إلى جانب خليل الوزير "أبو جهاد"، الذي اسس إلى جانب أبو عمار الجناح العسكري لحركة فتح، وأبو أياد له صورة كبيرة معلقة على جدار البيت العائلي في مخيم برج البراجنة منذ استشهاده اغتيالاً على يد الموساد الإسرائيلي في نهاية الثمانينات في تونس.
حركة فتح هي تاريخ فلسطيني طويل من النضال مرتبط باسم أبو عمار "الختيار"، وقياديون كثر استشهدوا من أجل القضية الفلسطينية وبعضهم ما زال حياً بانتظار تحقيق بعض ما يحلم به الفلسطينيون أي العودة إلى حيفا ويافا وبناء دولة حرة ديموقراطية. هكذا تصف الفتاة الصغيرة الحركة التي لا تعرفها إلا بصورة "الختيار" مبتسماً في حصار بيروت عام 1982 يرفع شارة النصر، بين بعض الشبان الذين أكلهم حرّ تموز وكمية كبيرة من الغبار تغطيهم بعد خروجهم أحياء من مبنى سقط بكامله بقنبلة فراغية لاحقت عرفات من شوارع صبرا والفاكهاني إلى برج أبي حيدر.
تقول الفتاة إن تحالف "القائد" مع الشهيدين كمال جنبلاط وجورج حاوي ورفيقهم محسن ابراهيم اتى من أجل تحرير فلسطين ولمواجهة جيش حافظ الأسد يوم دخوله لبنان في العام 1976، هي لا تصدق أن فتح ساهمت في الحرب الأهلية الإقليمية في لبنان، وتقول إن "فتح" اعتذرت من اللبنانيين قبل ثلاثة أعوام وقدمت نموذجاً جديداً على ايمانها بأن لبنان وطن نهائي لأبنائه ولن يكون ممراً للقضية الفلسطينية بل هو استضاف اللاجئين الذين سيعودون بالتأكيد إلى بياراتهم وحقولهم.
المشهد لا يتكرر في بيروت اليوم، فالرفاق استشهدوا أو أقيلوا من الحياة السياسية أو تحولوا إلى حضن العربي القاتل، فالرفيق جورج حاوي حين دعا الشيوعيين إلى المشاركة في مهرجان تأسيس حركة فتح في العام 1978، كان المهرجان في شارع الحمرا، سينما كبيرة يختفي مدخلها من الذاكرة وتبقى فيه صورة المقاعد المليئة بالرفاق يصفقون للأغاني الحماسية، يطل حاوي مرحباً بأبو عمار، يقف الجميع، يدخل الرجل ويخلع نظارتيه السود من فوق عينيه الشهيرتين، رافعاً شارة النصر نفسها التي رفعها يوماً ما في العام 2004 حين نقلته طائرة الهيليكوبتر من رام الله باتجاه الأردن وبعدها الى فرنسا. الأب نفسه يصفق وينظر فرحاً إلى ابنه المشارك في تلك الاحتفالية، الأب نفسه يشارك أبو عمار لحظات الموت نفسها في مستشفى أقرب إلى فلسطين، ويموت بعده بساعات، قد يعاتبه إذا التقيا في مكان ما على الانقسام الفلسطيني وعلى معركة طرابلس في العام 1982 وسقوط العشرات من رفاقه الحزبيين قتلى بأيدي فتح وحلفائها الهاربين من جحيم القتل البعثي، بعد تركه وحيداً في بيروت تحت نار الدبابات الإسرائيلية وطيران الـ"أف 16".
سيطل محمود درويش في الاحتفال بعد عقدين من الزمن ويقرأ بعضاً من مديح الظل العالي، ويحاصر الأسئلة وينشر غسيله على حبل والدته، حيث يرى من فوق الثياب ريتا تغني للدولة التي زارها وأكل من يدي أمه بعضاً من طعامها، وشرب قهوتها.
تعد الفتاة التي كبرت أسماء قادة فتح المؤسسين من ياسر عرفات، خليل الوزير، محمود عباس، سليم الزعنون، ويوسف غميرة، عبد الله الدنان وعادل عبد الكريم، يوسف النجار وكمال عدوان وعبد الفتاح إسماعيل. وعبد الفتح حمود (أبو صلاح) وأبو هشام وهاني الحسن وهايل عبد الحميد وصلاح خلف وعلي الحسن ورفيق النتشة، وخالد الحسن (أبو السعيد) ومحمود مسودة (أبو عبيدة). تقول إن "فتح" بكل مشاكلها ستظل الطريق الواضح لتحرير فلسطين، حتى ولو كانت الأخطاء كبيرة ولا تطاق وفيها الكثير من المشاكل التي لا تنتهي، فستبقى حركة التحرير الوطني الفلسطيني لإعادة الناس إلى بيوتهم.
المصدر: المستقبل