فلسطين في القارة اللاتينية.. قضية للمناسبات
بقلم: غدير أبو سنينة
شاءت الأقدار أن أكون في سان سلفادور عام 2011، حينما زارها محمود عباس في سعيه
للحصول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتّحدة. قبلها بأيام، كنت قد التقيت
عدداً من أبناء المهاجرين واللاجئين الفلسطينيين من عدّة أجيال، ولم تكن صعبةً ملامسة
الحساسية الموجودة بينهم، بسبب اختلاف انتماءاتهم السياسية، ما بين يمين ويسار في بلد
شهد حروباً طاحنة بين الحزبين، وكان مؤسّس جبهة اليسار فيه من أصل فلسطيني هو شفيق
حنظل.
ما إن اقترب مني أحدهم معرّفاً عن نفسه بقوله إنه قريب الرئيس السلفادوري السابق
من أصل فلسطيني، أنطونيو السقا، حتى همس لي آخر بقوله "دعك من هذا الوغد، فهو
وابن عمه (يقصد السقا) ليسا سوى انتهازيين!".
تبادرت إلى ذهني، بسرعة، الإجراءات المشدّدة على دخول العرب إلى السلفادور التي
بدأت الحكومة تطبيقها بمجرّد استلام السقا سلطات البلاد، كأنما كانت خطوة تطمينية لحزبه
اليميني بأن أصله الفلسطيني لن يؤثّر على القوانين المراعية لتوجّهات الحزب.
الكثير من المهاجرين الفلسطينيين في أميركا اللاتينية أصبحوا من أصحاب رؤوس
الأموال الضخمة، بل تبوّأ كثير من أبنائهم مناصب سياسية رفيعة في الدولة، لكن هذا لا
يعني الكثير، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار غياب رؤية واضحة لمشروع دعم حقيقي للقضية
الفلسطينية والاكتفاء بدور السفارات الفلسطينية الذي لا يتجاوز إقامة بعض الاحتفاليات
المناسباتية، لتتّخذ "المقاومة" شكلاً مؤقّتاً ينتهي بانتهاء الحدث، من دون
أن نغفل المبادرات الفردية التي إمّا تفتقر للدعم المادي أو للرؤية المنهجية.
في الحالة السلفادورية، تعاملت بعض الأجيال اللاحقة من المهاجرين مع القضية
الفلسطينية بتحفّظ بحسب ما تقتضيه المصلحة الشخصية. وفي الوقت نفسه، وقفت حائرة بين
أن تتماشى مع سياسات البلاد وبين إحساسها بضرورة مساندة قضيتها الأم.
هذا الإحساس الذي يبرز ما إن ترى تلك الأجيال تواصلاً رسمياً واضحاً بين ممثلي
بلادها الأم (فلسطين) والبلاد التي وُلدت فيها، إذ إن غياب التواصل في معظم الأحيان
كان يحمل بعض أبناء تلك الجالية وفي أوقات معيّنة، على إخفاء أصولها الفلسطينية خوفاً
من أن تُنعت بالإرهاب، أو أن تُرفض من المجتمع أو الحزب.
ثم وقع طلاق بائن ما بين الفصائل الفلسطينية وبعض الحركات الثورية في أميركا
اللاتينية منذ ثمانينيات القرن الماضي، إذ كان العمل المشترك بينها يجري ضمن خطّة وتوجّه،
بينما انحصر دور المنظّمات المساندة للقضية الآن على الجهود الفردية للجاليات مع تعاون
محدود في ما بينها وبين السفارات، وشبه غياب لاستغلال المقدرة الاقتصادية لدى أصحاب
رؤوس الأموال من أصول فلسطينية وعربية.
صحيح أنه في السلفادور، مثلاً، لم يكن بالإمكان إلحاق اسم "العربي"
بــ "النادي العربي السلفادوري" لولا سيطرة الفلسطينيين الذين يشكّلون
2% من السكّان على 40% من رأس المال، لكن المشاريع المنفّذة لا تحقّق التطلّعات، وهي
خطوات مقدّرة لكنها ليست كافية، إذ لم تتمكّن كل تلك الأموال (في كل القارة اللاتينية)،
مثلاً، من تأسيس منبر إعلامي حقيقي ومؤثّر يروي التاريخ كما هو أو حتى العمل سياسياً
في المجال الثقافي رغم أن الباب مفتوح والأدوات متوفرة، ولا سيما أن الفن والأدب في
تلك القارة هما من أساسيات الحياة ويشكلان مدخلين واسعين لتغيير الرأي العام.
مخطئ من يظن أن انقسام الفصائل الفلسطينية في الداخل لا يُلقي بظلاله حتى في
أميركا اللاتينية، فإذا لم تتمكّن تلك الفصائل من التواصل مع بعضها، ولم تتمكّن السلطة
الفلسطينية من التواصل مع أبناء الداخل، فسيكون ضرباً من الخيال أن نحلم بتواصلهم مع
الأجيال المهاجرة للجهة الأخرى من الكوكب.
نيقولا معمر، السلفادوري من أصل فلسطيني وذو التوجه اليميني قال لي إن أحد أخطاء
المقاومة الفلسطينية كان التصاقها التام بالأحزاب اليسارية والركون الكامل إليها، وعدم
محاولتها اختراق الأحزاب اليمينية في أميركا اللاتينية، وبغض النظر عن تصوره الخاطئ
لطبيعة عملي، فقد قال لي -تخيّلوا-:
- أخبري السلطات الفلسطينية أننا -نحن أبناء المهاجرين الفلسطينيين- نرغب أن
تمنحنا سفارات فلسطين بطاقات هوية تؤكد أننا فلسطينيو الأصل كي نورثها لأبنائنا فلا
ينسوا المطالبة بالعودة إلى بلادهم، فإذا ما تحررت فلسطين، تمكنوا من إثبات أصولهم
وحصولهم على أوراق فلسطينية رسمية.
قلت له:
- الآن.. فوراً!
(كاتبة فلسطينية/ نيكاراغوا)
المصدر: العربي الجديد