القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 30 تشرين الثاني 2024

فلسطين: معارك أخرى ليست حربية

فلسطين: معارك أخرى ليست حربية

بقلم: نهلة الشهال

لم يزل التفاوض دائراً في القاهرة حول غزة. وهو شاق جداً على الرف الفلسطيني بسبب الاختلال العميق في موقف «الوسيط» المصري، وبسبب الشك في وجود مضمرات لدى بعض قوى السلطة الفلسطينية، على رغم قيام حكومة وحدة وطنية تجمع كل الفصائل تحت سقفها، وعلى رغم وحدة الوفد الفلسطيني المفاوض. وهو شاق أيضاً بسبب ما يعصف بالمنطقة من فظائع، مما يتدخل في مشهد المجازر التي ارتكبتها اسرائيل ويضعها في تنافس ومقارنات مع فظاعات أخرى ترتكب في العراق وسورية (وسواهما)، وما يلحق اضطراباً في تراتب المشاغل ويجعل سلم أولويات الأخطار نسبياً!

لكن العنصر الأكثر مشقة في تلك المفاوضات يتعلق بإسرائيل التي يهم قيادتها في شكل وجودي أن تثبت أنها خرجت من عدوانها المروع ذاك، بـ «نصر». فهي حركت قدرات هائلة وأقدمت على توغلات برية، وارتكبت مجازر مشهودة، وسقط لها جنــود وضباط بأعداد اكبر مما تعودت. ولا بد من معادِل يتولى تبرير كل هذا، ما يجعل ساستها اليوم يعرِّفون النصر بقولهم إنهم باتوا يتحكــمون بالموقف تماماً. لذا لا يرغبون في التوصل إلى اتفاقات بل يسعون الى تثبيت «الهدنة» التي تترك أيديهم طليقة، ويتوعدون بضربات جديدة متى يروق لهم.

وهم يبررون الإقدام على هدنة من دون حسم المشهد بتحقيقهم «غاية» العملية (تغيرت بحسب النتائج الممكنة)، فدمروا 32 نفقاً كانت تستخدم لشن هجمات ولنقل السلاح وتخزينه. وهي الأنفاق التي تعدت جغرافيتها المعهودة، أي الحدود مع مصر، والتي كانت مستخدمة خصوصاً للتهريب المدني والعسكري، فانتشرت على طول «الحدود» مع إسرائيل كمواقع قتالية. واكتشاف هذا التوسع اصاب اسرائيل بالجنون. وهي على أية حال مهيأة تكوينياً للسقوط في الرُهاب، لأنها تأسست على فكرة متناقضة، حيزها الأول يتعلق بانتزاع ما تقدمه سرديتها كحق تاريخي- وعد الهي، بالقوة وبالتفوق العسكري الكاسح، وبعسكرة هذا الكيان (فالجيش والخدمة فيه هما عماد الحياة، بالمعنى الحرفي والعملي للكلمة الذي يستمر حتى آخر لحظة من عمر الأفراد ويطاول كل تفاصيل يومياتهم). أما الحيز الثاني فبدأ بإنكار وجود الفلسطينيين (المعادلة الشهيرة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»)، لينتهي الى قناعة راسخة بأن الوضع الآمن الوحيد يتمثل في رضوخهم التام، وتصور ذلك في العقل الإسرائيلي يتعدى الشروط المعتادة في الاجتماع البشري، ويعود مجدداً إلى إنكار وجودهم، معنوياً هذه المرة. والفلسطينيون، مهما فعلوا، موضع ريبة دائمة، وتفحص للنوايا قبل الأفعال. واختلاط الحيزين ينتج معضلة إسرائيل الذاتية والتي لا حل لها، في ما يتعدى سائر الحالات الاستعمارية المختبرة.

لكن ذلك شأن آخر، بينما في المدى المباشر، وفي القاهرة اليوم، يبدو الموقف غير قابل للحل، لأن ما أطّر الفعالية القتالية للمقاومة الفلسطينية كما صمود الناس في غزة، وارتضاءهم دفع ذلك الثمن الهائل في الأرواح والممتلكات، يتلخص بفكرة أساسية هي انتزاع فك الحصار المستمر منذ سبع سنوات، مما يتطلب اتفاقات مع مصر ومع إسرائيل.

ووسط كل هذه الاستعصاءات التي تحيط باللحظة، يبرز عنصر مهم هو الشكوى التي قدمتها الحكومة الفلسطينية إلى محكمة الجزاء الدولية في لاهاي بتاريخ 25 تموز (يوليو) الماضي. فهناك ميل في الوجدان السائد لدينا للاستخفاف بهذا المجال واعتباره شكلياً ومن دون طائل، أو لوضعه في تضاد مع الفعل الميداني وللاندفاع الى افتراض أن مَنْ يقاوم لا يحفل بالمعارك القانونية أو الديبلوماسية (والفكرية والثقافية)، تماماً كما يوجد ميل لدى أوساط نخبوية إلى اعتبار تلك المعارك القانونية والديبلوماسية هي الأصل. وفي كلتا الحالتين، تسود مقاربة تبسيطية لأدوات النضال، أحادية المنطق ونابذة لغير الميدان المختار لفعل أي جماعة. هناك ميل رسمي فلسطيني إلى الحذر من الانخراط في المعارك القانونية والديبلوماسية الكبرى، يتجسد في التردد الكبير قبل الإقدام عليها، والتلويح بها كتهديد (ما يحيلها الى تكتيك). كما هناك ميل إلى رميها في سوق المساومة مع إسرائيل.

في عام 2009، وإثر عدوان إسرائيل آنذاك، قُدِّمَت شكوى الى محكمة الجزاء الدولية. وقتها كانت فلسطين لم تحز بعد على صفة الدولة المراقِب في الأمم المتحدة (حصلت عليها في 29 تشرين الثاني- نوفمبر 2012)، ولم تنتمِ بعد الى المنظمات والمعاهدات الدولية الـ15 التي انتسبت إليها في نيسان (ابريل) الفائت، ومنها اتفاقية جنيف الرابعة (لماذا نخوض معارك كهذه إن لم نستثمرها ونثمّرها، فتبنى الواحدة على الأخرى وفق منطق الترابط والتراكم؟).

هذه الصفة وتلك الانتسابات، علاوة على الاعتراف بأهلية المحكمة الدولية على مجمل تراب فلسطين من قبل السلطة الفلسطينية (بعد أيام على وقف العدوان على غزة مطالع 2009) تضع الطرف الفلسطيني في موقع قوة لجهة حقه في اللجوء الى المحكمة التي ستُقْدم بداية على تحقيق أولي (ما فعلته أصلاً في 2009 ونتج منه تقرير غولدستون الشهير)، ثم يتدرج تعاملها مع الشكوى حتى مرحلة الحكم والإدانة (للمرتكبين وليس للدولة) لو ثبت وجود جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.

وما ارتكبته إسرائيل في غزة يقع في منطوق تلك الجرائم وفق تقديرات المختصين. ولا يعطل الأمر أن إسرائيل لم توقع «ميثاق روما» المقر في 1989 والمؤسِّس للمحكمة (أو هي وقعت ولم تثبّت التوقيع).

صحيح أن محكمة العدل الدولية دانت الجدار الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية وطلبت إزالته وتعويض المتضررين، وأنه مضت عشر سنين ولم يختف الجدار ولم ترضخ إسرائيل، بل العكس، وسعت عدوانها وارتكاباتها. لكن الصحيح أيضا أن معركة نزع الشرعية عنها لن تُكسب بالضربة القاضية، بل بتضافر أدوات كما واقعات لا حصر لها، ومن كل نوع. وبالمناسبة، ترافق التقدم بهذه الشكوى حملة شعبية عالمية داعمة لها، تتمثل بالتوقيع على عرائض موجهة إلى محكمة الجزاء، تلاقي صدى هائلاً وتتحول مناسبة ليعبر الناس عن إدانتهم للعدوان الإسرائيلي على غزة، والأهم، عن رفضهم إفلات إسرائيل من المحاسبة والعقاب... وهذا جزء من المعركة معها، وإن بأدوات غير حربية، ولا تناقض.

الحياة، لندن، 10/8/2014