القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

فلسطين والمتاع الزائد

فلسطين والمتاع الزائد

بقلم: عرفات الحاج

في 1988، مع صدور «إعلان قيام دولة فلسطين»، كانت منظمة التحرير من خلال اعترافها بالقرارات الدولية ذات الصلة، أي القرارين 242و 338، كأساس لذلك الإعلان، قد كرست اعترافها ضمنياً بوجود إسرائيل، وسيطرتها على 78% من أراضي فلسطين التاريخية. كان المبرر لذلك التوجه أنّ موازين القوى لا تسمح بالاستمرار في التشبث بتحرير كل فلسطين، وإذا كنا نعجز عن ذلك، فلنطالب بما تقره لنا قرارات الشرعية الدولية. ولوقت طويل، عارضت تيارات سياسية ذلك التوجه، باعتباره تخلّياً عن القسم الأكبر من أراضي فلسطين.

لكن ما جرى إغفاله لدى أصحاب ذلك التوجه أو معارضيه، أنّه لم يكن قراراً بالتخلي عن الأرض فحسب، بل كان يطاول أولئك الفلسطينيين الذين تمكنوا من البقاء في أراضيهم إثر النكبة في 1948. كان القرار يعني عملياً ترك هؤلاء الفلسطينيين، الذين يفترض أنّ منظمة التحرير تمثلهم، لمصيرهم، أملاً في الحصول على دعم مراكز القوى العالمية للمنظمة ومشروعها المعدل بخصوص حقوق الشعب الفلسطيني. التوجه الجديد كان اعتداءً واضحاً من منظمة التحرير على حقوق جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، ومحاولة قبيحة لانتزاع فلسطينيتهم منهم. ما جرى كان أشبه بالتخلص مما عُدّ حملاً زائداً في رحلة منظمة التحرير للاقتراب من معايير الرضى لدى القوى المهيمنة على المجتمع الدولي.

كان يفترض بذلك السلوك وتلك الفلسفة غير الأخلاقية بامتياز، أن تكون موضع أسئلة جديّة عن الهوية الفلسطينية، وعن جديّة تمثيل المنظمة للفلسطينيين وجدارتها بقيادتهم في المعركة من أجل حقوقهم. ومع ذلك، لم يثر جدل داخلي فلسطيني جدي بشأن تمثيل المنظمة للكل الفلسطيني بعد تلك الخطوة، ولم يوجّه نقد يذكر لمنظمة التحرير الفلسطينية دفاعاً عن حق أهلنا الذين صمدوا في أرضهم.

التزم ذلك التوجه بتحقيق إنشاء دولة فلسطينية حرّة، ذات سيادة على أراضي عام 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم التي طردوا منها عنوة. دافعت الفصائل والجهات التي حملت ذلك التوجه، عنه باعتبار أنّ إنجاز كلا المطلبين، أي الدولة والعودة، يعني تحصيل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كاملاً.

في 2011، وبعد مرور 23 عاماً على إعلان الاستقلال، وبعد وصول المشروع السياسي إلى طريق مسدود، عادت منظمة التحرير لتبحث عن مخرج جديد يعطي مشروعها بعض الحياة، فقُدِّم طلب للاعتراف بالدولة على حدود الرابع من حزيران لمجلس الأمن. يتناول ذلك الطلب حق تقرير المصير لجزء من الشعب الفلسطيني، ويغفل أيّ مطالبة رسمية للأمم المتحدة بتطبيق قرارها بخصوص اللاجئين. بُرِّرت تلك الخطوة التي اتخذتها منظمة التحرير بإجماع فصائلها، بالحاجة إلى إعادة القضية الفلسطينية للأمم المتحدة في ظل فشل المفاوضات.

عملياً، تأتي تلك الخطوة لترسخ تخلّي منظمة التحرير عما بقي من الشعب الفلسطيني، خارج حدود الضفة وغزة، وهو مسار برز واضحاً من خلال سلوكها خلال سنوات المفاوضات الطويلة؛ إذ إنّ الترجمة الطبيعية للحديث عن إعادة ملف القضية الفلسطينية للمنظمة الدولية لتتحمل مسؤوليتها بشأنه، تعني بالتأكيد الذهاب لمطالبة الأمم المتحدة بتطبيق كافة قراراتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية، بما في ذلك القرار 194 المتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة لأراضيهم، لا ترك قضية اللاجئين كملف للمفاوضات مع إسرائيل.

لكن من الواضح أنّ المنطق الذي قاد للتخلي عن الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي الـ1948، كان سيفضي بالضرورة إلى ترك اللاجئين لمصيرهم. وبمنتهى اللاأخلاقية يجري اعتبار ملف اللاجئين ملفاً قابلاً للتأجيل أو التفاوض، حينما يتحدث السيد رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عن حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين، على هامش خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

مرة أخرى، بإمكان المنظمة أن تلقي جزءاً مما تعدّه حملاً زائداً في رحلتها للحصول على رضى القوى المهيمنة دولياً. ومرة أخرى يجري الاعتداء على حق أغلبية الشعب الفلسطيني، وهم من اللاجئين، من قبل المنظمة التي تدعي تمثيلهم. وأياً كانت التبريرات التي يجري تسويقها، مشفوعة بالحديث عن توازن القوى والموقف الدولي، لا يمكن أحداً إنكار أنّ منظمة التحرير أقرت أنّ الهاجس والأولوية الأساس لديها الآن هو الحصول على الاعتراف بدولة على حدود الرابع من حزيران، وأنّها تركت حقوق اللاجئين كملف مؤجل للمفاوضات.

وفي خطابه أمام الجمعية العمومية، قال أبو مازن إنّ الربيع العربي كان أحد العوامل التي أسهمت في اتخاذه تلك الخطوة، أملاً في أن يأتي الربيع الفلسطيني من خلالها. الربيع العربي وثورات الشعوب العربية على حكامها، أتت لانتزاع حقوق تلك الشعوب من جلاديها، والمنطق الذي قاد منظمة التحرير والنظم العربية الرسمية لتجاوز حق فلسطينيي الـ48 أولاً، ثم ترك حق اللاجئين ثانياً «قيد المفاوضات»، هو منطق جلادي تلك الشعوب، ولا استغرب أن يُفاجأ السيد محمود عباس بما سيحمله الربيع الفلسطيني حينما يأتي قريباً.

* باحث فلسطيني في مجال دراسات الشرق الأوسط

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية