فلسطين ومفارقة الرقم 194
بقلم: د. خليل حسين/ أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
الاعتراف القانوني بالدولة الفلسطينية يستلزم أولا وأخيرا، اقتناع فلسطيني وعربي، بأن الاعتراف لا يؤخذ بل ينتزع مثله مثل الاستقلال، فهل وصلنا نحن العرب إلى هذه القدرات أم لا؟
غريب المفارقات في الرقم 194 انه يحمل عنوانا لقضيتين أساسيتين في مسار القضية الفلسطينية من الناحية القانونية الدولية. فالقرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والقاضي بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ظل على مدى عقود شعار إنساني أكثر ما هو واقع قانوني أو سياسي، وفي مجمل الأحوال ظل حبرا على ورق، لا يعدو كونه توصية غير ملزمة التطبيق قانونا.
واليوم يشكل الرقم 194 تحديا إضافيا للقضية الفلسطينية، إذ ستكون مناسبة عرض قضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية رقما للدولة المعترف بها اذا تمت في سياق ترقيم الدول المنضمة للأمم المتحدة.وبصرف النظر عن رمزية الرقم ودلالاته، تبقى ان لعبة الأرقام وتواليها في قرارات الأمم المتحدة نوعا من المصادفة المسلية لا أكثر ولا أقل، إذ تحتل القضية الفلسطينية والقضايا العربية ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي مئات التوصيات والقرارات غير القابلة للتنفيذ بفعل غرابة النصوص أو تكييفها القانوني الذي ظل ضمن الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة.
طبعا من الناحية القانونية الصرف، يستلزم الاعتراف بالدولة الفلسطينية لكي تصبح صاحبة الرقم 194، أصوات ثلثي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو أمر قابل للتحقيق وسط التوازنات السياسية القائمة في الجمعية العامة، لكن الأمر لن ينتهي عند ذلك الحد، فتوصية الجمعية العامة تستلزم قرارا من مجلس الأمن بصفته الموضوعية لا الإجرائية، وبالتالي يستلزم أصوات أحدى عشرة دولة من بينها أصوات الدول الخمس الكبرى مجتمعة لتمرير القرار، وهو أمر غير متوفر بالتأكيد نظرا للموقف الأميركي الصريح والمعلن بأنها ستستعمل حق النقض (الفيتو) لإفشال تمرير القرار وإصداره.
طبعا من الناحية القانونية الصرف، يعتبر صدور قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية كعضو كامل الحقوق في الأمم المتحدة، له وزنه المعنوي والعملي في سياق الممارسات الدولية لفلسطين مستقبلا، عدا عن ارتباط الموضوع بقضايا قانونية وسياسية كثيرة. إلا انه ينبغي ان لا يكون هذا الأمر هو نهاية الدنيا بالنسبة للفلسطينيين خاصة. فكثير من الدول قامت بداية بالاستناد إلى اعتراف "واقعي" وليس "قانونيا"، وتمكّنت عبر الممارسات والعلاقات الدولية من فرض الاعتراف القانوني بها ولو بعد حين.
وفي مجال المقاربة والمقارنة أيضا وعبر غريمتها الأساس إسرائيل، فقد ظلت تحارب وتحاول عقود عدة لتنال الاعتراف "الواقعي" بها من الدول العربية، فكانت تعتبر مجرد توقيع اتفاقات الهدنة مع دول الطوق العربية في العام 1949 اعترافا واقعيا وتحاول البناء عليه لتصويره وكأنه اعتراف قانوني، ولم تتمكن من انتزاع هذا التوصيف والتكييف القانوني إلا مع الدول التي وقعت معها اتفاقات سلام (مصر والأردن والسلطة الفلسطينية)، ورغم ذلك تمكنت مع الأيام من انتزاع الاعتراف الدولي - القانوني بها رغم معرفة المجتمع الدولي بحيثيات إعلان وبناء دولة إسرائيل بالطريقة التي أقيمت بها على أراضي فلسطين التاريخية.
لقد أقامت إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية الدنيا ولم تقعدها، ومارستا ضغوطا غير مسبوقة على الفلسطينيين لمنعهم من عرض قضية الاعتراف بالدولة، على قاعدة ربط موضوع الدولة الفلسطينية والاعتراف بها قانونا، بمفاوضات الحل النهائي مع إسرائيل، وهو أمر غير قابل للتطبيق في ظل إستراتيجية التفاوض الإسرائيلية المعتمدة مع السلطة الفلسطينية منذ مؤتمر مدريد العام 1991 وتوابعه اللاحقة.فحتى الآن لم يكن لصورة الدولة الموعودة سوى مقترحات متدرجة نزولا لا صعودا، وهي في واقع الأمر تراجعات إسرائيلية متتالية عن مواقف يتم التوصل إليها، يقابله تنازلات فلسطينية في ظل غياب تام لموازين قوى غير متكافئة بالمطلق.فكيف يمكن الاستناد على تقطيع الوقت لتحقيق الاعتراف بالدولة الفلسطينية في ظل مفاوضات غير قائمة بالأصل عبر حكومة إسرائيلية لا تعير اهتماما لتلك المسارات منذ العام 1991.
ان الاعتراف القانوني بالدولة الفلسطينية يستلزم أولا وأخيرا، اقتناع فلسطيني وعربي، بأن الاعتراف لا يؤخذ بل ينتزع مثله مثل الاستقلال، فهل وصلنا نحن العرب إلى هذه القدرات أم لا؟ طبعا ان ذلك يبدو امرأ صعبا في ظل الواقع العربي والدولي الراهن، لكن معرفة كيفية الوصول إلى خلق بيئات مناسبة أمر ممكن ولو استغرق سنوات أخر.
في العام 1974، تمكّن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من إلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية، مطالبا بتطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، تم ذلك بفضل دعم عربي موصوف، وبإستراتيجية غصن الزيتون بيد والبندقية بيد أخرى.اليوم سقطت البندقية بفعل خيار المفاوضات كما سقط غصن الزيتون مرة أخرى.وما زال الفلسطينيون والعرب يبحثون عن اعتراف عبر منظمة دولية تحكمها وتتحكم فيها توازنات سياسية لا مواثيق قانونية.
في العام 1948 لم تصبر الولايات المتحدة الأميركية سوى إحدى عشرة دقيقة للاعتراف بدولة إسرائيل بعد الإعلان عنها. وغريب المفارقات أنها لم تتمكن حاليا من الصبر أكثر من احد عشر يوما قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، للإعلان صراحة عن قرارها باتخاذ حق النقض ضد أي قرار سيطرح للاعتراف بالدولة الفلسطينية، فعلا أنها طرفة سياسية مفرطة في مصادفات الأرقام لقضية شغلت الأمم المتحدة منذ نشأتها، فهل ستصبح فلسطين الدولة 194 في الأمم المتحدة، أم سيظل القرار 194 لحق العودة له الوهج السياسي والإعلامي. في كلتا الحالتين، تبقى الأرقام أرقاما، والعبرة تكمن في جعل الأرقام أوزانا قابلة للاستثمار لقضية باتت الوحيدة من قضايا النظام العالمي البائد دون حل أو تصور حل قادم!.
المصدر: ميدل ايست أونلاين