القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

في الركن البعيد الهادئ

في الركن البعيد الهادئ

بقلم: سما حسن

قبل أيام، حاول بائع متجول في غزة الانتحار، احتجاجاً على مصادرة البلدية عربته التي يبيع عليها الذرة المشوية على شاطئ البحر، بالقرب من أحد الفنادق، وأنقذت حياته بأعجوبة، بعد تناوله سم الفئران.

قبل سنوات، وكما علمتنا السينما، كنا نعتقد أن الباعة المتجولين هم الذين تسرّبوا من المدرسة غالباً، وأنهم يستترون وراء هذا العمل لارتكاب السرقة، لكن متابعة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في معظم البلاد العربية عامة، وفي غزة خاصة، تظهر أن تغيراً كبيراً قد طرأ على هذه الفئة، لتتوقف طويلاً ومجبراً، قبل أن تقرر طريقة التعامل مع البائع المتجول على عربة متحركة، أو أمام طاولة صغيرة، أو حتى من يدور على البيوت، أو ينادي على بضاعته متقافزاً بين إشارت المرور، إذ أصبح هؤلاء، في غالبيتهم، من فئة الخريجين الذين حازوا على شهادات جامعية، قد تصل إلى الماجستير أو الدكتوراه، ولم يحصلوا على وظائف، وانضموا إلى صفوف العاطلين عن العمل، واضطرتهم ظروف الحياة إلى اللجوء إلى هذه المهنة. لذا، لم يعد الزجر والإهانة والاستخفاف بهم صالحاً للتعامل معهم، كما روجتها أفلام السينما القديمة.

ما جرى ليس حدثاً عارضاً، بقدر ما هو قرع على جدار الخزان، فالخريجون الذين تضخهم الجامعات كل عام، ولا يجدون عملاً، والعمال الذين فقدوا عملهم داخل الخط الأخضر، وفي الأنفاق، وفي المصانع المحلية، هم مسؤولية البلديات والوزارات التي يجب أن تعزز صمودهم، وتفتح أمامهم آفاقاً للحياة الكريمة، عبر إنشاء المشاريع الصغيرة التي تحفظ لهم لقمة عيشهم، وبالتالي، تحفظ عليهم كرامتهم. فالقضية ليست محاولة انتحار، بل بركان على وشك الانفجار، إذ إن نحو 40% من سكان غزة يعيشون تحت خط الفقر، وضعفهم بحاجة لمساعدات إغاثية.

الجناة هنا متعددون، و"أونروا" أحدهم، بتقليصها خدماتها في غزة في الوقت الذي تتفاقم فيه أزمة البطالة، ولا تفكر بالتراجع عن معادلة الفقر التي يتم تحديد المحتاجين على أساسها، وعدم فصلها بين ميزانية النفقات الإدارية للموظفين الدوليين عن الميزانية الأساسية لها، حيث تتم دوماً تلبية حاجات موظفيها، على حساب مخصصات اللاجئين.

والزبائن الذين يقفون أمام هذه العربات، فيبخسون بضاعتهم ويساومونهم، مثل الثرية الأنيقة التي تخرج من "المول"، محملة بشتى أنواع البضائع المستوردة، ويلاحقها شاب بحزم من النعناع أو البقدونس، فتقف طويلاً لتساومه، لكي تحصل منه على أربع حزم بدلاً من ثلاث بمبلغ زهيد، وبذلك تزيد من شعور البائع بالذل والمهانة والضياع، حتى يصل به التفكير إلى الانتحار، كما تؤكد ذلك دراسات في العلوم الإنسانية وعلم الجريمة، بأن فقدان الشعور بالعدالة أهم أسباب الانتحار في المجتمعات كافة.

الشاب الأول الذي حاول الانتحار، محمد أبو عاصي، وأطلق عليه لقب "بوعزيزي غزة"، أب لطفلين. حاول الانتحار، في مرة سابقة، بالسباحة باتجاه مرمى نيران قناصة البحرية الإسرائيلية، وهو يمتلك عربة يكتب عليها "روتس الغلابة"، ويوقفها في منطقة "أوروبا غزة"، كما يطلق عليها، حيث ذلك الركن البعيد الهادئ من شمال بحر غزة ذو فنادق الخمس نجوم، مثل فندق "الروتس" الذي استوحى الشاب اسمه، ليطلقه على عربته، تماماً كما يفعل شاب آخر، إذ يطلق على عربته اسم "موفنبيك على قد الحال"، نسبة إلى فرع غزة من سلسلة فنادق موفنبيك، وربما كان اختيار هذه التسميات تعبيراً عن شعور بالمرارة والمقارنة بين مستويات الناس المتفاوتة، نتيجة طبيعية للفقر والبؤس. وبنجاته من الموت، فإن الوعود التي تلقاها الشاب أبو عاصي بإيجاد وظيفة له، براتب بسيط، ليست حلاً أو امتصاصاً لغضب الشارع، لأن الحل يحتاج إلى جهود وطنية، تعتمد على ترتيب الأولويات في البيت الفلسطيني.

تساءل ابني الذي سيتخرج من الجامعة ساخراً: ما الذي سيحدث بعد تخرجي، سوف أنتقل من داخل سور الجامعة لأبيع جوارب نسائية خارجه.

المصدر: العربي الجديد