في السؤال عن
معنى الاستقالات الفلسطينية
بقلم: ماجد كيالي
أثارت استقالة الرئيس محمود
عباس، من موقعه كرئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ومعه بعض أعضاء اللجنة، العديد
من التساؤلات حول مغزى هذه الخطوة، وبالأخص حول شرعيتها، وضمنه شرعية الكيانات السياسية
الفلسطينية، من الناحيتين القانونية والسياسية.
بداية يفترض التوضيح بأن
خطوة الاستقالة هذه ليست جدية، بمعنى أنها لا تعني الاستقالة حقا، وإنما هي بمثابة
وسيلة لتبرير الدعوة لعقد جلسة خاصة للمجلس الوطني الفلسطيني بمن حضر، على أساس تقدير
مفاده أنه من الصعب عقد جلسة عادية لهذا المجلس في الظروف الحالية.
وتحاول هذه الأطروحة، غير
المؤكدة، تبرير ذاتها بمادة في النظام الداخلي للمنظمة مثيرة للجدل (المادة 14 ولاسيما
الفقرة ج)، تفيد بإمكان عقد جلسة خاصة بمن حضر، من أعضاء اللجنة التنفيذية ومكتب رئاسة
المجلس وبعض أعضائه، لترميم الشواغر في اللجنة التنفيذية، "في حالة القوة القاهرة"،
التي يتعذر فيها عقد دورة غير عادية.
والمشكلة هنا بالطبع تكمن
في ضبابية مفهوم "القوة القاهرة"، أو في الجهة التي يحق لها أن تعرف هذه
الحالة، وحدود ذلك. وقد يجدر التنويه هنا إلى أن الفقرة (ب) من المادة ذاتها تقول بإمكان
الدعوة إلى جلسة خاصة للمجلس في حال شغور أكثر من ثلث أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة،
لكن حتى هذه الفقرة تشترط النصاب، أي حضور ثلثي أعضاء المجلس (حوالي 730)، بحسب المادة
(12)، علما أن مدة العضوية في المجلس الوطني هي ثلاثة أعوام (المادة 8)، وأنه يفترض
أن يعقد دورة اجتماعات له مرة واحدة في كل سنة.
أما الغرض من اللجوء إلى
هذه المادة، في هذه الخطوة المفاجئة، فيتمثل بمحاولة الرئيس الفلسطيني ترتيب البيت
الداخلي، في المنظمة (وبعدها في "فتح")، بما يتلاءم ورؤيته الخاصة، وأيضا،
تدارك الخطر الناجم عن الفراغ في القيادة الفلسطينية، لاسيما بعد أن باتت أعمار العديد
من أعضاء اللجنة التنفيذية فوق الثمانين، وضمنهم أبو مازن ذاته، لاسيما بعد الأحاديث
الكثيرة مؤخرا عن هذا الأمر، ناهيك أن هذا يشمل حسم الخلاف بينه وبين بعض الأطراف في
الساحة الفلسطينية، كما حصل مع ياسر عبد ربه، وسلام فياض.
إشكالات قانونية
واضح مما تقدم أن ثمة مشكلة
قانونية في المجلس الوطني، من ثلاثة نواحٍ، أولاهما أن هذا المجلس لم يجدد عضويته منذ
عقدين تقريبا، أي منذ آخر دورة انعقاد له (الدورة 21، غزة، 1996)، بمعنى أننا إزاء
مجلس متقادم، وهذا ينطبق على اللجنة التنفيذية، إذ ثمة أعضاء فيها لهم قرابة أربعة
عقود.
وثانيتهما، أن هذا المجلس
لا يلتزم بانتظام عقد اجتماعاته، مرة كل سنة، ولا حتى كل خمسة أعوام، إذ أنه لم يعقد
منذ ربع قرن، ومنذ ما بعد اتفاق أوسلو، إلا دورة اجتماعات واحدة له (1996)، كما ذكرنا،
في حين أن الدورة السابقة كانت في الجزائر (الدورة 20، 1991).
وثالثتهما، أنه تبعا لذلك
فإن هذا المجلس لا يقوم بوظائفه على النحو المناسب، وأنه بات معطلا من الناحية الفعلية،
ولا يضطلع بأي دور في إضفاء شرعية على الخيارات السياسية الفلسطينية، ولا يقوم بوظيفته
المتعلقة بمراقبة ومراجعة ومحاسبة أداء اللجنة التنفيذية.
وفي الواقع فثمة قضية ملتبسة
في ما حصل، ففي حين تحدث العديد من القياديين عن تقديم استقالات، نفى صائب عريقات،
الذي تم انتخابه كأمين سر للجنة التنفيذية في الاجتماع ذاته، ذلك، وربما القصد من هذا
النفي أن الاستقالة لا تدخل حيز التنفيذ إلا لدى انعقاد اجتماع الجلسة الخاصة.
وكان عريقات لخص ما حدث
بالعبارة الآتية "أقرت اللجنة التنفيذية البدء في كافة التحضيرات اللازمة لعقد
جلسة استثنائية للمجلس الوطني الفلسطيني، وسوف تطلب من رئاسة المجلس اتخاذ كل الإجراءات
القانونية واجبة الاتباع لعقد هذه الجلسة بأسرع وقت ممكن."
"ثمة مشكلات قانونية
في المجلس الوطني، من عدة نواحٍ، أولاهما أن هذا المجلس لم يجدد عضويته منذ عقدين تقريبا،
وهذا ينطبق على اللجنة التنفيذية، إذ ثمة أعضاء فيها لهم قرابة أربعة عقود، كما أنه
لا يلتزم بدورية انعقاده كل سنة أو حتى خمس سنوات"
ويُفهم من ذلك أن الاستقالات
متضمنة في تبرير الدعوة لعقد الجلسة، وأنها بمثابة وديعة لدى مكتب رئاسة المجلس، ما
يوضح الالتباس أو التناقض اللذين يعبران عن التخبط الحاصل في كيفية تمرير أو تبرير
هذه الخطوة للرأي العام.
بالمحصلة، لدينا الآن استقالة
11 عضوا من اللجنة التنفيذية، فبعد الرئيس ثمة فاروق القدومي، صائب عريقات، أحمد قريع،
أسعد عبد الرحمن، محمود إسماعيل، حنان عشراوي، غسان الشكعة، أحمد مجدلاني، رياض الخضري،
حنا عميرة.
بالمقابل، ثمة سبعة أعضاء
احتفظوا بعضويتهم هم: زكريا الأغا (فتح)، ياسر عبد ربه (مستقل)، عبد الرحيم ملوح (جبهة
شعبية)، تيسير خالد (جبهة ديمقراطية)، علي إسحق (جبهة تحرير)، صالح رأفت (فدا)، محمد
زهدي النشاشيبي (مستقل). وهذا يطرح مسألتين، الأولى، وهي أن معظم الفصائل المنضوية
في المنظمة ليست موافقة على هذه الخطوة، وأن ثمة عضوا من "فتح" لم يسير معها
وهو زكريا الأغا.
والثانية، أن هذا الأمر
سيفضي إلى منازعة قانونية، بين من يعتبر أن الاجتماع يحق له ترميم الشواغر فقط، ما
لا يلبي الغرض المقصود، لجهة إزاحة ياسر عبد ربه وبعض ممثلي الفصائل، أو تجاهل هذه
المسألة القانونية والذهاب مباشرة إلى التصويت على لجنة تنفيذية جديدة، وهذا هو القصد،
وهو الإجراء المرجح، بغض النظر عن قانونيته أو شرعيته.
معضلة الشرعية
بعد كل هذه الحيثيات، ثمة
أربع ملاحظات، الأولى، أنه لا توجد اليوم شرعية فلسطينية بالمعنى الناجز، إذ لم يعد
ثمة وجود لما كان يسمى بـ "الشرعية الثورية"، المتأتية من حملة البنادق والكفاح
المسلح، بعد تحول الفصائل إلى سلطة، كما لا توجد شرعية تمثيلية بعد أن انتهت آجال الفترات
الانتخابية، للمجلس الوطني (بحسب ما ذكرنا)، أو للرئيس وللمجلس التشريعي بعد مضي عقد
على الانتخابات.
وفوق هذا وذاك، لا توجد
شرعية شعبية مع انقسام الفلسطينيين، بخاصة بين "فتح" و"حماس"،
ومع نشوء فجوة واسعة بين كتلة كبيرة من الفلسطينيين، في الخارج والداخل، والفصائل السائدة،
سيما أن هذه الكتلة باتت تجد نفسها خارج العمل الفلسطيني بعد شل المنظمة، وإقامة السلطة،
والعمل وفق اتفاق أوسلو.
الملاحظة الثانية، تفيد
بأن مسألة الشرعية في الساحة الفلسطينية لا تقتصر على الشرعية القانونية، أي المحكومة
للوائح الناظمة والأطر الشرعية، وإنما هي محكومة، أيضا، بالافتقاد للشرعية السياسية،
وهذه مسألة حاكمة، وعلى غاية الأهمية، إذ أن الخيارات السياسية الفلسطينية، منذ حوالي
ربع قرن، لم تتأسس على أية شرعية، وهذا يشمل اتفاق أوسلو (1993)، الذي لم يتم اتخاذ
قرار بشأنه لا باستفتاء شعبي ولا في مجلس وطني.
أما الملاحظة الثالثة، فتنبثق
من واقع أن الافتقاد للشرعية لا يقتصر على المنظمة (والسلطة) فقط، وإنما يشمل الفصائل
ذاتها، مع وجود فصائل ليس لها وجود في مجتمع الفلسطينيين، ولا دور في مواجهة العدو،
ولا أي نكهة أو مبرر، ومنذ عقود. أما الفصائل الأخرى، فمعظمها لا يتمتع بحياة داخلية
تتأسس على المشاركة والتمثيل والانتخاب والتداول، أي أن قيادتها لا تتمتع بشرعية انتخابية.
الملاحظة الرابعة والأخيرة،
وهي أن الساحة الفلسطينية مازالت حائرة في تحديد مصادر شرعيتها، فهي مازالت تعمل وفق
نظام "الشرعية الثورية"، باعتماد المحاصصة الفصائلية (الكوتا)، رغم انتهاء
مفاعيلها ومعانيها، وتقادم وأفول معظم الكيانات المتشكلة منها، وهذا لم يعد مجديا ولا
مقنعا، بعد التحول إلى سلطة، ومع وجود نظام يتأسس على الانتخابات والشرعية التمثيلية.
والفكرة هنا أن القيادة
السائدة تحاول توظيف شرعية في مواجهة شرعية أخرى، بحسب رؤيتها لأحوالها أو للحفاظ على
مكانتها، ويأتي ضمن ذلك الاستناد إلى مرجعية منظمة التحرير حينا، رغم أنها مهمشة، أو
الاستناد إلى مرجعية السلطة واحتياجاتها في أحيان أخرى، وهكذا.
عموما، لنا في مشهد المجلس
المركزي الذي قرر وقف التنسيق الأمني ومقاطعة إسرائيل، وتحديد العلاقات معها، (مارس/آذار
الماضي) مثال على ذلك، إذ بقي هذا القرار حبرا على ورق، مثل القرار الصادر عن ذات المجلس
قبل ستة أعوام (2009) والقاضي بتنظيم انتخابات تشريعية في الأراضي الفلسطينية، بمعنى
أن مصلحة القيادة اتخاذ أية قرارات هكذا في المنظمة لأغراض سياسية معينة، في حين أنها
ارتأت تجميده في السلطة لأغراض سياسية معينة أيضا، وهكذا.
أفول الكيانات
بيد أن معضلة الشرعية عند
الفلسطينيين لا تتوقف على كل ذلك، إذ أن ما يفاقم مشكلتها أنها مرتبطة أصلا بشيخوخة
الطبقة السياسية الفلسطينية التي ظلت متحكمة بالمجال السياسي العام للفلسطينيين حوالي
نصف قرن، دون أن تجدد ذاتها، أو تفسح في المجال أمام التجديد، ومع تشبثها بخياراتها،
رغم إخفاقاتها في المقاومة المسلحة أو في التسوية، في الانتفاضة أو المفاوضة، في بناء
المنظمة أو بناء السلطة. واللافت أن هذه الطبقة تتواطأ مع بعضها للحفاظ على "الستاتيكو"
السائد، وضمنه نظام المحاصصة (الكوتا) الفصائلي، بحيث تعيد إنتاج ذاتها، وحراسة مواقعها،
رغم أنه لم يعد لديها شيء تضيفه، مع ضحالة دورها، وتراجع مكانتها.
كما أن هذه المعضلة مرتبطة
بأفول المشروع الوطني عند الفلسطينيين، مع إخفاق الخيارات السياسية التي أخذتها قيادتهم
على عاتقها، ومع الاختلافات والانقسامات في حركتهم الوطنية، ومع تزايد شعورهم بالضياع،
والافتقاد إلى مرجعية في كل ما يتعلق بأوضاع مجتمعاتهم، في الأراضي المحتلة عامي
(48 و67) وفي بلدان اللجوء في الأردن ولبنان وسوريا والعراق ومصر، وبلدان الشتات.
"منظمة التحرير قبل
الاستقالة وبعدها، مع اجتماع مجلس وطني، أو من دونه، ستبقى على حالها. والمعنى أن هذه
المنظمة استهلكت وهمشت، أولا، لأن السلطة حلت محلها. وثانيا، لأن الزمن الفصائلي انتهى،
وما تبقى مجرد لزوم ما يلزم أو مجرد تفاصيل"
ولعله يجدر بنا في هذا المقام،
وبناء على كل ما تقدم، الإشارة إلى أن مصادر الشرعية في الساحة الفلسطينية، لم تعد
تتأتى من الدور الكفاحي، ولا من الشعبية الجماهيرية، ولا من صناديق الاقتراع، وإنما
تتأتي من تمتع الطبقة السياسية السائدة (في المنظمة والسلطة والفصائل)، بالموارد المالية
وعوامل الهيمنة وضمنها القوة العسكرية، بالإضافة إلى العلاقات العربية والدولية.
وبكلام أوضح، فإن الطبقة
السياسية السائدة لا تدين بالمرجعية لشعبها، بل إنها متحررة منه، أولا، لأنها تعتمد
في مواردها على المساعدات الخارجية، وليس عليه. وثانيا، لأن مجتمع الفلسطينيين مغيب
ومقيد ومجزأ، بسبب توزعه على عدة بلدان وخضوعه لأنظمة سياسية وقانونية مختلفة، ولأنه
غير متوحد في إقليم واحد.
وثالثا، لأن ثمة قطاعا واسعا
من الفلسطينيين، يناهز أكثر من مليون إلى مليون ونصف مليون، يعتمد في موارده على السلطة
والمنظمة والفصائل، مع وجود ربع مليون موظف أو متفرغ. هكذا، ففي مثل هذه الظروف يتعذر
على مجتمعات الفلسطينيين الموزعة تلمس أي وسيلة ضغط ناجعة على كياناتهم السياسية، فكيف
إذا كانت هذه الكيانات ذات بنية مليشياوية، وتتحكم بالموارد، وبالعلاقات مع العالم؟
ما ينبغي إدراكه أخيرا،
أن منظمة التحرير قبل الاستقالة، وبعدها، مع اجتماع مجلس وطني، أو من دونه، ستبقى على
حالها. المعنى أن هذه المنظمة استهلكت وهمشت، أولا، لأن السلطة حلت محلها.
وثانيا، لأن الزمن الفصائلي
انتهى، وما تبقى مجرد لزوم ما يلزم أو مجرد تفاصيل. وثالثا، لأن الطبقة السياسية السائدة
ستبقى على حالها، رغم أنها فقدت أهليتها النضالية، ورغم أنه لم يعد لديها أي شيء جديد
تضيفه.
القصد أن الفلسطينيين في
حال انهيار وطني على كافة الصعد، منظمة وسلطة وفصائل، وعلى صعيد الرؤى السياسية، والأخطر
أن هذا يحصل مع تفكيك الشعب، أي تفكيك مجتمعات الفلسطينيين على نحو ما نشهد هذه الأيام.
المصدر: الجزيرة نت