القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

في مئوية وعد بلفور.. جذور الصهيونية

في مئوية وعد بلفور.. جذور الصهيونية

بقلم: قادة الدين

في أذهان المسلمين والعرب ضياع فلسطين جاء بسبب الصهيونية، الصهيونية المشروع والحركة والتنظيم العالمي، الذي تمكن عبر خطة متكاملة من طرد شعب من أرضه التي استوطنها منذ آلاف السنين، وأحل مكانه شعبا آخر، استقدم من بقاع العالم المختلفة، تنفيذا لنبوءة موغلة في القدم وأسطورة متهالكة، تقول إن اليهود اضطروا تحت تأثير عوامل معينة للخروج من أرضهم، وفي المنافي القاسية تلقوا وعدا مقدسا بالعودة للأرض التي تركوها، وانتظروا كثيرا حاملين معهم هذا الوعد قبل أن يروه يتحقق على يد أبناء صهيون المخلصين، مؤسسي المنظمة الصهيونية العالمية.

وفي سبيل تجسيد المشروع الحلم، الرامي لاستعادة أرض الميعاد المزعومة، عمدت المنظمة الصهيونية بداية لإنجاز عمل كبير يرتكز على توطين أكبر قدر ممن يفترض بهم أنهم يهود في فلسطين، والسعي للحصول على موافقة الدول الغربية الكبرى على فكرة الوطن القومي، ولجعل هذا واقعا ملموسا كان عليها أن تحضر جيدا عبر توفير كل فرص النجاح للعملية وتدرس كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، وتهيئ الظروف في العالم أجمع وفي المنطقة وفي الوسط الداخلي لليهود، لكن قبل كل هذا فإن قيام الحركة الصهيونية ذاتها وبشكلها النهائي وتبلور فكرة الوطن القومي كان نتاج زمن طويل من تراكم التراث اليهودي وتتالي المشاريع التي تنادي بضرورة توحد اليهود في كيان واحد وفي أرض واحدة.

فالصهيونية قبل المنظمة العالمية كانت عقيدة، ولدت منذ زمن بعيد قبل القرن العشرين الذي تضافرت فيه عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية كثيرة، جعلت يد اليهود تعلو وتتمكن وتعرف الطريق نحو اغتصاب فلسطين، وإقامة مشروع الدولة القومية، فيرجع كثير ممن كتبوا عن اليهود أن الصهيونية كفكرة بدأت مع التاريخ اليهودي نفسه، وأنها لا زمت اليهود عبر تاريخهم بعد تحطيم الهيكل، وذلك لسببين: الأول هو ظاهرة العداء لليهود والمذابح والاضطهاد اللذين تعرضوا لهما في كل مكان وكل زمان، وهي ظاهرة حتمية أزلية من المنظور الصهيوني، والثاني: فهو الرغبة العارمة في العودة لفلسطين (أرض الميعاد).

فالصهيونية ركن أساسي في النسق الديني اليهودي، بدأت مع التشريد الأول أو ما يعرف بالأسر البابلي الذي وقع سنة 586 ق م، في شكل الحنين للعودة إلى صهيون وإلى المملكة الغابرة، وتشكّلت تحت تأثيرات الأسر والقمع بالحديث عن بشائر نزول المخلص الذي سيفتتح أورشليم بالسيف، وتطورت عبر التاريخ، وصولا إلى القرن التاسع عشر حيث استثمر فيها منظرو مشروع الوطن القومي والأمة وجعلوا منها المحرك الأول لدفع اليهود للعمل والتوحد.

فخلال الحقبة البابلية وما تلاها من تغريب تشكّل كثير من التراث الديني اليهودي الذي يتحدث عن التعلق بجبل صهيون والقدس، فارتبط جبل صهيون ارتباطا وثيقا بالعقيدة اليهودية، كما يظهر في الإصحاح الثامن من سفر( زكريا) من العهد القديم: "هكذا قال الرب قد رجعت إلى صهيون وأسكن في وسط أورشليم فتدعى أورشليم مدينة الحق وجبل رب الجنود الجبل المقدس"، وكما في الوعد الإلهي المزعوم من الله لإبراهيم في الإصحاح الثاني عشر من سفر (التكوين)" أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك واذهب إلى الأرض التي أريك، فأجعل منك أمة كبيرة وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة لكثيرين"، وكذلك في الإصحاح الخامس عشر من سفر (التكوين): " في ذلك اليوم عقد الله ميثاقا مع أبرام قائلا: سأعطي نسلك هذه الأرض من وادي العريش إلى نهر الكبير، نهر الفرات".

وفي العهد الروماني وبعد التشريد الثاني الذي فرقهم عبر امتداد الإمبراطورية الرومانية، عاد حلم العودة يراود اليهود من جديد، وولدت نصوص أخرى تشير لأرض الميعاد كرمز مقدس وتبشر بالعودة، فورد في الإصحاح الثاني عشر من سفر (الرسالة إلى العبرانيين)، من العهد الجديد: "إنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار، ، بل أتيتم إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحي أورشليم"، وخلال هه الحقبة كتب "فيلون" فيلسوف الإسكندرية اليهودي قائلا: "إن اليهود لكثرة عددهم لا تحويهم بقعة واحدة، ويتفرقون لطلب الرزق في أغنى البلاد من أوروبا وآسيا، وعلى أنهم ينظرون إلى أورشليم مقر هيكل الله المقدس كأنها حاضرتهم الكبرى، ويحسبون وطنا لهم كل أرض عاشوا فيها وعاش فيها آباؤهم وأجدادهم من قبلهم".

ويشار إلى أن ظهور مفهوم "المشيحانية" قد تم خلال هذا العهد الروماني، والذي يقول بنزول المسيح في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا، وهو انعكاس واقتباس لفكرة المخلص نفسها في فترة أخرى قديمة في التاريخ اليهودي، أثناء السبي البابلي، والتي بشر بها أنبياء يهود كثر منهم حزقيال وإشعياء وزكريا وإرميا وعاموس، وإن كان الخلاص المنتظر قد تم على يد قورش الفارسي الذي لا علاقة له أصلا باليهودية، فهو من أعادهم لفلسطين سنة 538 ق م، وإن وجد في العهد القديم ما يحتفي به ويشير إليه كنبي: "هكذا يقول الرب لمسيحه قورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما"، ورغم أنهم كفروا بالمسيح الحقيقي لما بعث بينهم ورفضوا تعاليمه، لكن لا يجهل أن التلمود وكثير من النصوص التي تنسب للعهد القديم هي محض أراء وأقوال الحاخامات، ضمنت عبر التاريخ كنصوص أصلية، لخدمة أغراض وتوجهات محددة.

ومن تلك النصوص التي وردت في العهد القديم تؤصل لعقيدة الخلاص والمخلّص، نجد في سفر (حزقيال): "يقول السيد الرب إذ آخذكم من بين الأمم وأجمعكم من كل البلدان وأحضركم إلى أرضكم وأرش عليكم ماء نقيا فتطهرون من كل نجاساتكم ومن أصنامكم، واجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها"، وفي سفر(زكريا): "ها أنا أنقذ شعبي المنفي في أرض المشرق والمغرب، وأردهم إلى أورشليم ليسكنوا فيها ويكونون لي شعبا وأكون لهم إلها بالحق والعدل، وكما كنتم لعنة يا أبناء يهوذا وإسرائيل فإنني أخلصكم فتصبحون بركة".

والعودة لفلسطين تتغذى أيضا في مخيال المتدينين اليهود، من ارتباط ذلك بصحة التعاليم الدينية، فكل الطقوس اليهودية لا تكتسب معناها الكامل إلا وسط بيئتها الأصلية على أرض فلسطين، وعلى الهيكل المزعوم في أورشليم، ولذا عمل الأحبار ومن صاغوا المرجعية الإسرائيلية طيلة قرون على جعل العودة ركنا مقدسا في الدين اليهودي، رغم أن الشواهد تقول إن سيناء هي مهبط التوراة ومنشأ اليهودية.

فالصهيونية كما تقدم فكرة دينية في الصميم تقوم على أسطورة غابرة، تغذت من تراث كبير يمجد العودة للأرض التي تركها اليهود منذ آلاف السنين، وتشردوا عنها في أصقاع الأرض، لكن تلك العودة ارتبطت ارتباطا وثيقا بعقيدة أخرى هي نزول المخلص الذي يجمع اليهود ويرفع عنهم الظلم والاضطهاد ويسوقهم خلفه لاسترداد الأرض، ويعيدون بعث الهيكل المزعوم وإحياء تراث سليمان وداود، فيظهر أن ذلك المشروع قد جعل في يد القدر وتغشته السلبية، فلا يبادر اليهود لتحقيقه وتجسيده لكنهم ينتظرون حكمة الإله وقدرته لتتدخل في الوقت الذي تختاره لتجعل منه واقعا.

ورغم امتداد جذور الصهيونية لبدايات تاريخ اليهود وقدم تأصيل فكرة العودة عندهم، فقد بقيت أيضا عقيدة المشيئة الإلهية مسيطرة طيلة زمن الشتات الذي امتد لألفين سنة، لا يتجاوز شعور اليهود فيه نحو بيت المقدس حد الحنين إلى مجد قديم وانتظار الوقت الإلهي الموعود، حتى جاءت الصهيونية الحديثة في القرن التاسع عشر، والتي أعلنت التمرد على "سلبية اليهودية الحاخامية وخنوع الشخصية اليهودية"، وخالفت صميم العقيدة العبرانية وابتدعت نهجا جديدا يبتعد عن العقيدة الميتافيزيقية المتكلة المنتظرة، ونحت نحو طريق جديد لتجسيد النبوءات والأساطير القديمة، ولم تنتظر أن تجلب العودة إلى فلسطين معجزة، ولكن سعت في إعداد الطريق بجهودها الخاصة، وعند هذه النقطة ظهرت الصهيونية الحديثة، وانطلقت الفكرة التي ولدت التنظيم العالمي.