القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

في محبة «الأونروا»

في محبة «الأونروا»

بقلم: معن البياري

لم تعد مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، التابعة للأمم المتحدة، (الأونروا)، تقدّم للتلاميذ فيها حبّات (زيت السمك) الصغيرة الصفراء. كنّا نسعد، ونحن في صفوفنا، تلاميذ في الابتدائية والإعدادية (لا صفوف للثانوية في الوكالة)، عندما نُعطى حبة، أو اثنتين غالباً، ونبتلعهما، وكان يُقال لنا إنها لتقوية جسومنا وليشتدّ عودنا. عصفت الأزمات المالية التي تُغالبها الوكالة، منذ سنوات، بتلك الحبّات، غير اللذيذة والمحبوبة في الوقت نفسه. وتسامح الفلسطينيون، في مطارح لجوئهم، بإلغاء تلك الالتفاتة من الأمم المتحدة إلى أهمية أن تشتدّ عيدان أبنائهم وبناتهم، وهم يتعلمون في مدارسها. أما وأن القصة الآن إنهاء كل خدمات التعليم والصحة والإعاشة التي تقدمها الوكالة العتيدة، تدريجياً، فتلك مصيبة كبرى. ولم يُغال الزميل، رأفت مرّة، لمّا كتب في (العربي الجديد) أن هذا الحال، لو صار، سيكون كارثةً. ولم يقترف مسؤول في حركة حماس شططاً، لما اعتبر الأمر نكبة فلسطينية ثانية.

أدين لوكالة الغوث بكثيرٍ لا حدود له، ليس فقط لأنني تعلمت القراءة والكتابة في مدارسها، وعبَرت في تلك المدارس في مدينة الرصيفة الأردنية، من نعومة أظفاري إلى يفاعتي، وليس فقط لأنّ بهجةً كبرى كانت تحتلني عندما كنت أتسلم، مطلع كل عام دراسي، الدفاتر الخضراء، وعليها شعار الأمم المتحدة، وكنّا، تلاميذ هذه المدارس، نتباهى بها، أمام أترابنا ممن يتعلمون في مدارس الحكومة (وزارة التعليم)، ولم يكونوا يحظون برفاهية تلك الدفاتر الرائعة، وكان كثيرون منهم من أصول فلسطينيةٍ مثلنا، غير أنهم نازحون على ما كنّا نسمع، فيما نحن لاجئون. ولم نكن بلهاء حتى نشغل أفهامنا بمعرفة الفرق بين الصنفيْن، كان كافياً أن أولئك بلا تلك الدفاتر، وبلا حبات زيت السمك أيضاً. ليست محبتي وكالة الغوث لهذه الأسباب فقط، بل أيضاً لأن والدي، رحمه الله، كان معلماً في مدارسها. وبذلك، يسّرت لنا الوكالة عيشاً كريما ومعقولا، ولم تتمايز أسرتنا عن اللاجئين الآخرين سوى بأننا لم نكن نستلم معونة (المؤن)، وهذه حصص من رز وطحين وزيت، وسمن وسردين ربما، لا لشيء إلا لأن أسر الموظفين في الوكالة لا يحق لهم هذا التموين الشهري، البسيط، وكنت مغتبطاً بهذا التمايز.

لم يعد ذلك (المؤن) باقياً. ولكن، ثمّة إعاناتٌ توفرها الوكالة للفلسطينيين المنكوبين والفقراء وضحايا الاعتداءات الإسرائيلية. ويستفيد 300 ألف فلسطيني من أسر فقيرة في لبنان من إعانات (الأونروا)، ويتعلم 117 ألف تلميذ في مدارسها في الأردن. ويستفيد من مختلف خدمات الوكالة 3.8 ملايين لاجئ فلسطيني في الأردن وفلسطين ولبنان وسورية، حالياً. وأن تتخيّل رمي آلاف العاملين في قطاعات التعليم (يستهلك 55% من موازنة الأونروا) والصحة والإعاشة إلى الشارع، مع انتهاء كل هذه الخدمات، فذلك يعني طوراً جديداً من الخراب في القضية الفلسطينية، والتي مع حلٍّ عادل لها، يصير طبيعياً أن تحل الوكالة الأممية نفسها، على ما تذكر مواثيقها الأولى، منذ تأسست في 1949.

لا أنسى نشاطاً رياضياً كبيراً، انتظم في معهد تأهيلٍ للمعلمين تابع للوكالة في الأردن، وضم ركضاً (هرولة) في ملعب واسع، بمشاركة مسؤوليْن أجنبييْن رفيعيْن في (الأونروا)، كان لافتا أن الرقمين على ملابسهما الرياضية كانا 48 و67. سمعتُ يومها معلماً يضحك، ويقول إن الرجلين سعيدان بوظيفتيهما الساميتين، وبراتبيهما العاليين، وهو حال لم يكونا لينعما به لولا نكبة 48 ونكسة 67. وقصارى القول، هنا، إن الذين أنشأوا (الأونروا)، وقاموا على استمرارها وتأمين ميزانياتها، لا يجوز لهم أن يمنّوا على الفلسطينيين بشيء، فاللجوء الفلسطيني كان نتيجة جريمة الطرد والتهجير والاحتلال الإسرائيلية، بإسنادٍ من دول معلومة، تنفض، الآن، أيديها من أي مسؤوليةٍ بشأن الأزمة المالية في (الأونروا). .. تُرى، هل بدأت النذر المفزعة الآن، منذ ألغت الوكالة الأممية تقديم حبّات (زيت السمك) لتلاميذ مدارسها؟

المصدر: العربي الجديد