قادة المقاومة
إذ يرحلون كغمامة صيف غزاوية
بقلم | فراس
أبو هلال
كغمامة صيف
غزاوية تحلق أرواح الشهداء في سماء فلسطين، تظلل السائرين على طريق المجد بنسيمها
البارد، وتغطي عيون الشمس لئلا تحرق أشعة "آب اللهاب" أطفال فلسطين
الخارجين للهو على شاطئ غزة، بين جنازة وجنازة وقصف.
كغمامة صيف تمر
على عجل، ولكنها تترك أثرا سرمديا لا يعرف حدود الزمان ولا المكان، ولا تصل إليه
"عادة" النسيان، فالشهداء في فلسطين محكومون بتأبيد الذكر والفخر،
ومنذورون لصناعة الحكايات الشعبية التي تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة، ويجتمع فيها
الصمود والمكابرة، وترسم مشاهدها مشاعر الصبر والاعتزاز والحزن المخبأ بالوسائد
خوفا من شماتة الباحثين عن صورة انكسار.
كغمامة صيف
عابرة يظهر القادة الشهداء في فلسطين بعد موتهم، مع قليل من الصور، وكثير من القصص
التي لا يعرفها أحد، فالشهادة للقادة تأتي عادة كاستراحة محارب نهائية، بعد اعتقال
وأحكام ومطاردة قد تستمر إلى عشرات السنوات، يبذل خلالها القادة
"المرشحون" للشهادة جهدا كبيرا في الاختفاء، لا الاختباء، ويتدربون فيها
على إخفاء بطولاتهم، وتغييب قصصهم التي هي بالأصل لا تصلح إلا للحضور! ولكنهم، في
غمرة المجد الذي يصنعونه؛ يصنعون أدواتهم الخاصة أيضا في إخفاء هذا المجد، بينما
يشتغل الكثيرون على صناعة مجد كاذب لا يستحقونه.
ولأنهم يبرعون
في إخفاء مجدهم اللانهائي كما يبرعون تماما في صناعته؛ يندر أن تجد لهم صورا تكفي
لتقرير تلفزيوني أو خبر صحفي بعد استشهادهم، كما يصعب على "المتابع
الحثيث" أن يتذكر أسماءهم، مع أنهم يملأون الدنيا رجولة وبطولة وعطاء، ولكن
قدر القادة الشهداء في فلسطين أن يمارسوا لعبة مزدوجة صعبة، من صناعة المجد
وإخفائه!
كغمامة صيف
ماطرة، ترجل رائد العطار، ومحمد برهوم، ومحمد أبو شمالة، دون إدعاء أو نرجسية
كاذبة، ومع القليل القليل من النياشين والرتب، فقادة فلسطين الشهداء هم من يعطون
الرتب والنياشين لجنودهم، وهم الذين يصنعون الهيبة "للنجوم" التي على
أكتافهم، وهم الذين يمنحون للقيادة ألقها، وهم، كما يعيشون ويصنعون بطولاتهم بدون
ضجيج؛ يغادرون الميدان إلى تراب فلسطين بدون ألقاب، فلقب الشهادة هو أغلى ما يطمح
له الفلسطيني، في وطن يندر أن توجد فيه عائلة لم تقدم أحد أبنائها قربانا للمجد
والتحرير والانتصار.
كنسيم عابر خرج
الشهداء الثلاثة ليلقوا السلام على رفح، في طريقهم إلى الخلود بالذاكرة الشعبية
الفلسطينية، حملوا على الأكتاف نعوشا جللت بالورود وبالعلم الفلسطيني، وعبثا حاول
الآلاف اللحاق بنعوشهم الراكضة على عجل كي تحتضن أرض فلسطين، في مشهد أرادت
"رفح" أن تسجل اسمها من خلاله في كتاب المجد الذي تصر كل قرية أو مدينة
أو بلدة فلسطينية أن تحجز مكانها فيه معمدا بدم القادة الشهداء.
كغمامة صيف خرج
الشهداء باسمين إلى قبورهم، ليؤدوا دورهم الأخير في النضال الفلسطيني، فتكون
جنازتهم شعلة جديدة في إذكاء هذا النضال، وليقطع مشهد التشييع الجماهيري المهيب
قول الزاعمين بانفضاض الشعب عن المقاومة، ولتخرس دماؤهم كل الأصوات المريضة التي
تتهم المقاومة بالتضحية بأبناء شعبها بينما تنعم هي بالأمان، وليكتبوا أسطرا جديدة
في أغنية العرس الفلسطيني الذي لا ينتهي، "في ليلة لا تنتهي... في ساحة لا
تنتهي...هذا هو العرس الفلسطيني".
المصدر: موقع
عربي 21