قراءة في مواقف محمود عباس: منسجم مع ذاته ومشروعه وفي موقع معادٍ للشعب الفلسطيني ومقاومته
بقلم: رأفت مرة
لم يتردد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، مطلقاً في الإفصاح عمّا يجول في قرارة نفسه، أو بالأحرى عن مشروعه السياسي وخطّه الذي التزمه للأميركيين والإسرائيليين منذ عقود.فالكلام الذي قاله محمود عباس في حواره مع القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي يوم 2 تشرين الثاني/ نوفمبر، ذكرى وعد بلفور، هو كلام صريح معبّر وواضح كل الوضوح ويلخص دور أبو مازن. فلا يوجد أوضح من محمود عباس، ولا أكثر شفافية منه حين يتحدث عن أمن "إسرائيل" وضمان مستقبلها.
محمود عباس واضح كل الوضوح، صريح بمنتهى الصراحة، شفّاف إلى أبعد الحدود في حماية أمن "إسرائيل" ووجودها والدفاع عن مستقبلها.
هكذا هو محمود عباس، منذ أكثر من أربعين عاماً، منذ أن كلفته منظمة التحرير الفلسطينية فتح قنوات الاتصال مع اليهود "المعتدلين" داخل الكيان الصهيوني، ففتح الاتصالات التي ربما كانت مفتوحة مع المعتدلين وغير المعتدلين، المستقلين والرسميين، الأمنيين والسياسيين.
هكذا هو محمود عباس، منذ أن دعا إلى قطع علاقة الفلسطينيين بـ"الشرق" – أي العرب – والتوجه نحو الغرب أي "إسرائيل".
هكذا هو محمود عباس، الذي وقّع وثيقة عام 1995 مع مفاوضين إسرائيليين تضمنت التنازل النهائي عن حق العودة.
ماذا قال عباس؟!
في حديث للقناة الثانية الإسرائيلية، قال عباس إنه ما دام في السلطة فلن تكون هناك انتفاضة مسلحة ثالثة على "إسرائيل"، وأكد قائلاً: "لا نريد أن نستخدم القوة، ولا السلاح، بل الديبلوماسية والسياسة، والمفاوضات، نريد أن نستخدم المقاومة السلمية".
ورداً على سؤال عمّا إن كان يريد العيش في بلدته صفد في الجليل التي هُجّر منها عام النكبة، قال: "لقد زرت صفد مرة من قبل، لكنني أريد أن أراها، من حقي أن أراها، لا أن أعيش فيها"، مضيفاً: "فلسطين الآن في نظري في حدود الـ67 والقدس الشرقية عاصمة لها، هذا هو الوضع الآن وإلى الأبد، هذه هي فلسطين في نظري، إنني لاجئ، لكنني أعيش في رام الله، وأعتقد أن الضفة الغربية وغزة هي فلسطين، والأجزاء الأخرى هي إسرائيل".
إذاً، محمود عباس في هذا التصريح الموجز يحدد ويرسم الأفق السياسي له وللمؤسسات التي يرأسها ويديرها، وهذا الأفق هو:
1- أن فلسطين بتاريخها وجغرافيتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها هي الضفة الغربية وغزة، وهي على مساحة 5500 كيلومتر مربع فقط، وبهذا فهو يشطب حيفا ويافا وعكا واللد والرملة والجليل الأعلى وطبريا وسهل الحولة وعسقلان والنقب وصفد والناصرة، ومئات القرى.
2- أن القدس بنظره هي القدس الشرقية فقط، وهي أقل من ربع المساحة الحقيقية لمدينة القدس، وبهذا فهو يشطب عشرات الأحياء العربية الإسلامية والمسيحية، ويشطب مئات الرموز الدينية والتاريخية والحضارية.
3- أن محمود عباس تعهد – كما في السابق – منع أي انتفاضة فلسطينية على "إسرائيل"، ومصطلح الانتفاضة في السياسة يعني حراكاً شعبياً سياسياً وإعلامياً سلمياً ضد المحتل. وبذلك، يعلن عباس رفضه لقيام انتفاضة سلمية، ليضم بذلك الانتفاضة الشعبية إلى قائمة المحرمات لديه، وعلى رأسها العمل العسكري المقاوم أو المقاومة المسلحة.
4- أن محمود عباس تعهد عدم قيام انتفاضة مسلحة ثالثة على "إسرائيل"، وهذا يعني أنه يرى الانتفاضتين الأولى عام 1987 والثانية عام 2000 انتفاضتين مسلحتين، وهذا رأي وتحليل غير صحيح، فهما انتفاضتان سلميتان شعبيتان، من أفضل وأروح ما قدمه الشعب الفلسطيني.
توقيت الكلام
أسوأ من كلام أبو مازن توقيته:
1- تعمد أبو مازن إجراء الحوار في ذكرى أليمة للفلسطينيين. واللافت أن تصريحات عباس تأتي في الذكرى الـ95 لما عرف بوعد بلفور؛ ففي الثاني من تشرين الثاني عام 1917، أرسل وزير خارجية بريطانيا جيمس آرثر بلفور رسالة إلى اللورد البريطاني ليونيل والتر روتشيلد، وهو أحد زعماء الحركة الصهيونية، تعهد فيها إنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين".
2- أتت هذه المقابلة قبل أربعة أيام من إجراء الانتخابات الأميركية، وكان أبو مازن يتخوف من احتمال فوز المرشح الجمهوري ميت رومني برئاسة الولايات المتحدة، وهو المعروف بقربه من الإسرائيليين وبدعم نتنياهو له.
3- جاء كلام محمود عباس بعد أيام من إعلان الحكومة الإسرائيلية إجراء انتخابات مبكرة في الكيان الصهيوني، حيث اتفق بنيامين رئيس "الليكود" مع أفيغدور ليبرمان زعيم حزب "إسرائيل بيتنا"، على خوض الانتخابات بقائمة موحدة، ولهذا الأمر دلالات سياسية خطيرة تجاه ارتفاع مستوى التهويد، وازدياد الاستيطان وتعطيل عملية التسوية.
ردود الفعل
حظيت تصريحات محمود عباس بردود فعل رافضة، وصدرت مواقف من فلسطين وخارجها تهاجم محمود عباس وترفض سياساته. فقد أكدت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" أن ما قام به محمود عباس من تنازل عن حق العودة ومهاجمته للمقاومة الفلسطينية هو جريمة بحق الشعب الفلسطيني كله بكل أطيافه وفصائله، بما فيها حركة فتح، وليس جريمة بحق حركة حماس فقط، مشددة على أن المعركة اليوم ليست بين حماس وعباس، بل هي معركة بين الشعب الفلسطيني كله وموقف عباس المخزي أمام القناة الصهيونية الثانية.
قراءة سياسية
نسجل على مواقف محمود عباس الملاحظات الآتية:
1- إن ما قاله محمود عباس ليس رأياً، وليس وجهة نظر، بل هو نهج سياسي ومشروع شامل وبرنامج عمل واضح، موجود داخل الساحة الفلسطينية، وهذا البرنامج الذي يقوم على الاعتراف بـ"إسرائيل" وضمان أمنها واستقرارها طرحته منظمة التحرير الفلسطينية وتقدم في ظروف سياسية محلية وإقليمية وموضوعية، ويمثل محمود عباس اليوم رأس حربة هذا المشروع.
2- إن محمود عباس يعلنها واضحة وصريحة، أنه ضد الانتفاضة الفلسطينية، أي إنه في المعسكر المعادي للشعب الفلسطيني، الذي أنتج انتفاضتين كبيرتين عامي 1987 و2000، وأنتج قبلهما وأثناءهما وبعدهما انتفاضات كثيرة، وهما من أهم ابتكارات شعوب الأرض، ومن أهم الإنجازات السياسية والشعبية الفلسطينية، ومن أكثر الوسائل تأثيراً في العالم وإزعاجاً وإنهاكاً للإسرائيليين.
3- إن محمود عباس وبكل وضوح يعلن نفسه وكيلاً أمنياً إسرائيلياً، وضابطاً بتصرف الاحتلال، ومسؤولاً في روابط القرى المعروفة في فلسطين، ونموذجاً فلسطينياً عن رئيس "دولة لبنان الحر" سعد حداد، أو قائد "جيش لبنان الجنوبي" أنطوان لحد.
4- إن محمود عباس، في تصريحاته الأخيرة، منسجم جداً مع ذاته، ومتناغم للغاية مع آرائه، وهو لم يكن ليتصنع أو ليتزلف، بل أفصح بكل ما عنده بصراحة، وهو قال هذا الكلام في مجالس كثيرة سابقة، وقاله لرؤساء منظمات يهودية التقاهم مرتين في الولايات المتحدة، نهاية العام الماضي، وأثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل شهرين.
5- إن محمود عباس – في السياسة – قدم خدمة مجانية للاحتلال؛ فهو قال هذا الكلام دون مقابل، وقدم تنازلات سياسية ضخمة، دون ثمن، فيما يقوم الاحتلال الإسرائيلي بتهويد الأرض، والاعتداء على الفلسطينيين، وتنفيذ مشاريع لتهويد مدينة القدس والاعتداء على المسجد الأقصى.
وقدم عباس تنازلاته المجانية في وقت يستمر فيه الاستيطان، وتتوقف المفاوضات، ويرفض الإسرائيليون إطلاق سراح الأسرى، ويُعتدى على قطاع غزة.
6- إن محمود عباس وضع نفسه خارج الإجماع الفلسطيني، وأبعد نفسه عن الثوابت الوطنية الفلسطينية، وأهان جميع الفلسطينيين. وهو يتصرف كأنه هو من أطلق الانتفاضة أو هو من قادها، أو هو من يمسك قرارها.
7- بهذه المواقف يصعّب محمود عباس الحوار السياسي الفلسطيني الداخلي، ويعرقل المصالحة، ويؤزم الوضع السياسي الفلسطيني الداخلي، ويخلق فجوة داخلية بين القوى السياسية، من دون أن يحصل على أي ثمن سياسي من الاحتلال غير التهكم الذي عبّر عنه مصدر إسرائيلي، حين قال المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية بول هيرستون: "إن المسؤولية ما زالت تقع على عاتق عباس للعودة إلى المفاوضات"، وأضاف: "إذا كان يريد أن يرى صفد أو أي مكان آخر في إسرائيل، سيسعدنا أن نريه أي مكان، لكن يجب أن تكون هناك رغبة في المضي قدماً في عملية السلام". وتابع بأنه نظراً إلى أن عباس ليس إسرائيلياً "فإنه ليس له الحق في أن يعيش في إسرائيل، نحن نتفق على هذا".
أما تنازل أبو مازن عن حق العودة، فهو ليس بجديد، وقدمه أبو مازن في أوسلو وطابا ووثيقة جنيف، ووثيقة عباس – أيالون، وفضح أولمرت عباس حين قال إنه تنازل عن حق العودة في المفاوضات المباشرة.
لكن المهم أن الشعب الفلسطيني متمسك بتحرير كامل فلسطين وعودة جميع اللاجئين، وأن مواقف عباس سيسطرها التاريخ في سجل التخاذل والتنازل والعمالة، وستبقى دليلاً على فشل قيادة سياسية ولدت في التوقيت الخاطئ.
المصدر: مجلة العودة، العدد الـ63