لئلا ننسى... «تحقيق حول مجزرة»
بقلم:أمنون كابليوك
في ثلاثين ساعة أنجز الجيش الإسرائيلي مهمّته وسيطر
على بيروت الغربية كلّها. فجر اليوم، استيقظ سكّان المخيّمين على هدير الطائرات المحلّقة
على ارتفاع منخفض، القوّات الإسرائيلية تطوّق المخيّمين، القنّاصة المتمركزون حول المخيّم
بدأوا رماياتهم على أهدافهم في الشوارع الضيّقة، وبعد قليل أخذت تنهال القنابل الآتية
من التلال والمرتفعات المحيطة، وطوال النّهار ظلّ الجرحى يتوافدون إلى مستشفى غزّة
حيث انكبّ الأطباء والممرضات على العمل دون انقطاع، وأرسل قسم من الجرحى إلى مستشفى
المقاصد على بعد 500 متر.. في هذه الأثناء انصرفت الميليشيات الكتائبية إلى إنجاز استعداداتها
لاقتحام المخيّمين، وبعد أن اتّصل إيتان بوزيره إيلي شارون، طلب الجنرال امير دروري
أن يتحقّق بنفسه من أنّ الكتائبيين جاهزون. عند الظهر استقبل الجنرال دروري في قيادته
العامّة رئيس «القوات اللبنانية: فادي فرام، وسأله إذا كان رجاله على استعداد للدخول
إلى صبرا وشاتيلا، فأجابه المسؤول الكتائبي «نعم وحالاً»، عندئذ أعطاه الضوء الأخضر.
والكتائبيّون لم يحاولوا بتاتاً أن يخفوا عن الإسرائيليين
عزمهم على تقتيل الفلسطينيين، والشهاداتُ على ذلك كثيرة، وقد نشرت منها الكثير الصحافةُ
الإسرائيلية.
ويمكننا أن نقرأ في الصحيفة الاسبوعية «باماهانا»
الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي، وبتاريخ الأوّل من إيلول/ سبتمبر 1982 (أي قبل أسبوعين
من المجازر) ما يلي: ضابط إسرائيلي كبير سمع العبارة التالية من فم ضابط كتائبي: «السؤال
الذي نطرحه على أنفسنا هو: بماذا نبدأ، بالاغتصاب أم بالقتل؟ ولو أنّ عند الفلسطينيين
ذرّة من العقل لوجب عليهم أن يحاولوا أن يرحلوا عن بيروت، فأنتم لا تتصوّرون المجزرة
التي ستحلّ بالفلسطينيين، المدنيّين والإرهابيّين، الذين سيبقون في المدينة».
وتتطابق الشهادات حول هوية القتلة، إنّهم بأكثريّتهم
الساحقة عناصر من «القوّات اللبنانية»، التي تتألّف بشكل أساسي من ميليشيا حزب الكتائب،
الحزب الذي أسّسه بيار الجميّل عام 1936 بعد زيارة قام بها إلى ألمانيا، ومن ميليشيا
النمور لحزب الوطنيّين الأحرار بزعامة الرئيس السابق كميل شمعون، ومن مجموعة من المتطرّفين
اليمينيّين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «حراس الأرز» بزعامة إتيان صقر.
فيما بعد، أصرّ السكان على التأكيد أنّ رجال سعد
حدّاد اشتركوا هم أيضا في المجزرة، وقال السكان إنّهم عرفوهم من شاراتهم ومن لهجتهم
الجنوبية ومن أسمائهم.
بدأت المذبحة واستمرّت 40 ساعة دون انقطاع، وتمكّن
الإسرائيليون من مراقبة العمليات من أسطح (الطابق السابع) المباني الثلاثة لبيوت الضبّاط
اللبنانيين، والتي كانوا يحتلّونها منذ الثالث من أيلول/ سبتمبر، لا سيّما وأنّهم مزوّدون
بمناظير تقرّب المسافات وتسمح بالرؤية في الظلام.
والحقيقة أنّهم لم يكونوا بحاجة إلى هذه الأجهزة
المتطوّرة، لأنّهم لا يبعدون 300 متر عن المركز الرئيسيّ للمجازر. ونستعير هنا تشبيهاً
لضابط إسرائيلي كان على سطح إحدى البنايات الثلاث، قال: كنّا نرى كما يرى مشاهدو الصفّ
الأوّل خشبة المسرح.
يقول الناجون من القتل إنّ المجزرة اتخذت منذ اللحظة
الأولى لبدايتها حجماً كبيراً، ففي الساعات الأولى وحدها قتل الكتائبيّون مئات الأشخاص،
كانوا يطلقون النار على كلّ من يتحرّك، وكانوا يحطّمون أبواب البيوت، ويجهزون على عائلات
بكاملها.
وأحيانا لم يكتفِ القتلة بالقتل، بل كانوا يقطّعون
أعضاء ضحاياهم قبل الإجهاز عليهم، ويحطّمون رؤوس الأطفال والرضّع على الجدران، ويغتصبون
النساء والفتيات الصغيرات قبل أن يقطعوهنّ بالفراعة.
وأحياناً كانوا يتركون واحدا من أفراد العائلة على
قيد الحياة، ويقتلون الآخرين أمام عينيه ليذهب ويخبر بما عاش وشاهد.
في منطقة حرج ثابت قتلوا عائلة «المقداد» بكامل
أفرادها عند بداية المجزرة، فهذه العائلة اللبنانية.. يبلغ عدد أفرادها 39 شخصاً، قتلوهم
كلّهم دون استثناء، ذبحوا البعض، وبقروا بطون البعض الآخر، وأطلقوا النار على الباقين،
ومنهم زينب الحبلى ــ 29 سنة ــ وهي في شهرها الثامن، قتلوا أولادها السبعة، ثمّ بقروا
بطنها وأخرجوا الجنين ووضعوه على ذراع أمّه القتيلة.
اغتصبوا عددا كبيرا من النساء في هذا الحيّ قبل
أن يقتلوهنّ ويمدّدوا جثثهنّ العارية على شكل صليب، بنت اغتصبوها من بنات المقداد عمرها
7 سنوات.. فلسطينية عمرها 13 سنة وهي الناجية الوحيدة من عائلتها (قتل والدها ووالدتها
وجدّها وكلّ إخوتها وأخواتها) روت لضابط لبناني: سألني أحدهم إذا كنت فلسطينية، قلت
نعم، فقال: تريدين احتلال لبنان؟ قلت لا، نحن على استعداد للرحيل من هنا، وكان إلى
جانبي ابن أختي، وهو رضيع عمره تسعة أشهر، وكان يبكي ويصرخ دون توقّف، ممّا أغضب أحد
العناصر الذي قال بعد قليل «طلع ديني من هذا الصراخ»، وأطلق عليه رصاصة واحدة، أجهشتُ
في البكاء، وقلت له: إنّ هذا الطفل هو كلّ ما بقي من عائلتي، فزاد هياج العنصر، وأمسك
بالطفل وفسخه شقفتين.
لم يستغرق الجنود الإسرائيليون المتمركزون حول المخيّم
وقتا طويلا ليدركوا أنّ شيئا غير اعتيادي يحدث فيه، لكنّ المسؤولين أبلغوهم بأنّ المخيّم
سيتعرّض لعملية تطهير من الإرهابيين.
وروى مظليّان مشاهداتهما لمراسلي «هاآرتس» ميخائيل
غارتي وأوزي كرين، عندما وصلا في اليوم التالي إلى مخيّم شاتيلا، قال المظلّيان: «كان
بالإمكان وقف المجزرة منذ مساء الخميس، لو أنّهم أخذوا بالاعتبار كلّ ما قلناه ونقلناه
لضبّاطنا».
قطعت الكهرباء عن بيروت الغربية، وما إن حلّ الظلام
حتّى بدأ الإسرائيليون بإطلاق الصواريخ المضيئة فوق المخيّمين من كلّ جانب.
الجمعة 17 أيلول 1982
عند الفجر تابع الضبّاط والجنود الإسرائيليون من
مراكز المراقبة ما يجري في مخيّم شاتيلا بواسطة المناظير، وشاهدوا أكواما من الجثث،
كما شاهدوا الرجال الذين يستعدّ الكتائبيون لإعدامهم رمياً بالرصاص.
الليوتنانت غرابوفسكي، الآمر المساعد لإحدى فرق
الدبابات، قال في إفادته أمام لجنة التحقيق: رأيت كتائبيين يقتلون مدنيّين، وقال لي
أحدهم: سيولد من النساء الحوامل إرهابيون، وقد أبلغ رؤساءه بذلك.
مداخل المخيّمات مسدودة، والجنود الإسرائيليون يحولون
دون مغادرة اللاجئين الذين يحاولون الخروج منها، ويأمرونهم بالعودة. ومن أكثر الحالات
إثارة للدهشة هي حالة مجموعة من 500 شخص، كانوا قد لجأوا إلى باحة مستشفى غزّة في مخيّم
صبرا، ثمّ هرعوا في محاولة للفرار بعد الظهر، حين علموا أنّ رجال الميليشيا يقتحمون
المستشفيات ويقتلون ويجرحون ويغتصبون كلّ من يصادفونه، وقد رفع هؤلاء المساكين الرايات
البيضاء وجدّوا في السير إلى أن وصلوا إلى كورنيش المزرعة، على الطريق الذي يقطع العاصمة
من الشرق إلى الغرب، حيث استوقفهم جنود إسرائيليون، فتقدّم أحدهم وشرح لهم ما يجري،
وقال إنّ رجال سعد حدّاد يقتلون كلّ الناس، غير أنّهم تلقّوا الأمر بالعودة إلى المخيّم،
وعندما أظهروا شيئا من التردّد جاءت دبابة إسرائيلية وصوّبت مدفعها نحوهم وأجبرتهم
على الرجوع.
المجزرة مستمرّة على أيدي الوحدة التي يأمرها الياس
حبيقة وسعد حدّاد والعناصر الجديدة، والرعب مسيطر على اللاجئين، ومن تمكّن منهم من
الفرار روى أنّه شهد أفعالا بربرية وحشية رهيبة، كما روى كيف كان رجال الميليشيا يتوزّعون
في مجموعات تضمّ خمسة أو ستة عناصر أو أكثر أحيانا، ويلاحقون اللاجئين في الشوارع ملاحقة
لا هوادة فيها، ويصطادونهم كالطيور، ويخرجون العائلات من مخابئها ويقتلونها في المكان
نفسه، وكيف كانوا يغتصبون النساء ثلاث أو اربع أو خمس مرات على التوالي، ثم يقطّعون
نهودهنّ قبل الإجهاز عليهنّ، وفي حين كان رجال الميليشيا قد استعملوا أمس الساطور والفأس
والفراعة، فقد لجأوا اليوم إلى وسائل أسرع بكثير: إطلاق النار..
من حين لآخر كان يقوم رجال يرتدون الزيّ العسكري
بمراقبة أكوام الجثث، فإذا لاحظوا فيها جريحا ما زال يتحرّك قتلوه فورا، وكثيرا ما
كانوا يرسمون بعد ذلك بالسكين صليباً على جثة الضحية..
لم يحاول المهاجمون التمييز بين الفلسطينيين واللبنانيين.
كلّ الشهادات حول سلوك المهاجمين داخل المخيّمين
بعد ظهر الجمعة تتّفق وتتطابق: العملية مدبرة ومخطّطة ومنفّذة بهدوء أعصاب وبدمٍ بارد.
يُستنتج من النقاشات والأحاديث بين الصحافيين الإسرائيليين والأجانب وبين الضباط الكتائبيين
أنّ النظرية القائلة بأنّ المجزرة وأعمال الهدم والتخريب كانت ثمرة انفجار عفويّ لمشاعر
الغضب والثأر بعد اغتيال بشير الجميّل، يستنتج من تلك النقاشات أنّ هذه النظرية خاطئة،
فكلّ الدلائل تشير إلى أنّ المجزرة كانت متعمدة، وأنّ الغاية منها تحريض الفلسطينيين
على الهجرة بكثافة من بيروت وعن كلّ لبنان.
وسياسة هدم المنازل «بالبولدوزرات» لتشريد سكّانها
ليست جديدة، فقد سبق أن اختبرتها «إسرائيل» أكثر من مرّة.
صحيح أنّ هذا البرنامج لم ينفّذ، لأنّ الفلسطينيين
هذه المرّة على خلاف عام 1948 لم يكن لديهم مكان يلجأون إليه.
السبت 18 أيلول 1982
السبت عند الفجر، المذبحة مستمرّة، وستتواصل حتى
منتصف الصباح.
الساعة العاشرة عاد الصمت يلفّ المخيمين، لم يعد
يُرى فيهما شيء يتحرّك، وشيئا فشيئا عاد السكّان إلى الظهور. وعمّت فوضى رهيبة لا توصف
عندما راح كلّ واحد يفتّش عن أفراد عائلته وسط الأنقاض.
تحت بعض الجثث وضع القتلة قنابل يدوية بعد أن نزعوا
شكّتها كي تنفجر وتقتل أفراد عائلات الضحايا عندما يأتون لاسترجاع الجثث.
هذه المرّة بدا واضحا أنّ الأميركيين لا يوفّرون
حكومة بيغن، وعلّق صحافيّ إسرائيلي قائلا: «ربّما لأنّهم يشعرون بأنّهم يتحمّلون جزءاً
من المسؤولية، لأنّهم هم الذين أعطوا الضوء الأخضر لشنّ حرب لبنان، وهذه المجزرة ما
هي إلّا النتيجة التي كان يمكن توقّعها».
ردّا على وزير الداخلية الإسرائيلي جوزف بورغ الذي
صرخ: «مسيحيون قتلوا مسلمين.. أين هي مسؤوليّة اليهود؟» علّق الروائي إرهار سميلانسكي
ساخراً: «أفلتنا الأسود الجائعة في الحلبة، فافترست الناس، إذن الأسود هي المذنبة لأنّها
هي التي افترست، أليس كذلك؟. من كان يمكنه أن يتصوّر، عندما فتحنا الباب أمام الأسود
وتركناها تدخل إلى الحلبة أنّها ستفترس الناس؟».
في أوساط الجيش يفضّلون التزام الصمت، صباح (الاثنين)
اجتمعت هيئة الأركان، ونقلا عن لسان أحد المجتمعين الذي روى ذلك لمراسل جريدة «دافار»
لم يخصّص رئيس الأركان إلّا خمس دقائق «لأحداث صبرا وشاتيلا»، لم يُبْدِ أحدٌ أيّة
ملاحظة، لم يطرح أحدٌ أيّ سؤال، لم يطلب أحد الكلام.
في هذه الأثناء، وفي نفس اللحظة بالقرب من مقبرة
جماعية، كانت امرأة تذرع الأرض ذهابا وإيابا، تمشي وتمشي ولا تتوقّف، 13 فردا من أفراد
عائلتها قتلوا، بينهم طفل عمره 4 أشهر، أخيرا توقّفت وتربّعت على الأرض، وأخذت تكمش
التراب وتهيله على رأسها، وتصرخ: «والآن إلى أين أذهب؟».
* أمنون كابليوك صحافي من طراز رفيع، ومحقق استثنائي
من جيل الكبار. عمل مراسلا لصحيفة لوموند وعرف بمصداقية عمله. يضم كتابه هذا تحقيقاً
كاملاً عن مجزرة صبرا وشاتيلا وهو خلاصة عمل بدأه المحقق في اليوم التالي للمجزرة،
وقد توصل الى نتائجه بعد دراسة وافية لشهادات عشرات الاسرائيليين، مدنيين وعسكريين،
ولفلسطينيين ولبنانيين وصحفيين أجانب، كما استخدم الإفادات التي جمعتها لجنة التحقيق
القضائية الاسرائيلية، ومحاضر الكنيست، وأقسام التنصت والإستماع التابعة لإذاعات الشرق
الأدنى، وبرقيات وكالات الأنباء الدولية، الى جانب مستندات ووثائق اسرائيلية وفلسطينية
ولبنانية. يقدم كابليوك في تحقيقه هذا كافة المعلومات والوثائق الهامة عن هذه المجزرة
بدءاً من اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل في 14 أيلول 1982 وحتى 20 أيلول/سبتمبر
يوم دخول الجيش اللبناني الى المخيّمين. في هذا الكتاب الخطير لا لزوم لأي تعليق، فالوقائع
وحدها تتكلم، لكن تجدر الاشارة الى ان قراءة هذه المقتطفات لا تغني أبدا عن قراءة الكتاب
كاملاً. توفي كابليوك منذ سنتين.
المصدر: الأخبار