القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

لاجئون يتعلمون معنى «المخيّم»

لاجئون يتعلمون معنى «المخيّم»
 

بقلم: جنى نخال

في مخيم برج البراجنة الكثير من المشاكل. نسأل عن العلاقة مع الجوار، عن الأوتوستراد الذي فصل المخيم من الشمال... تكون الأجوبة سريعة مقتضبة. «روحي شوفي النازحين» يقولون لي، «صار في 120 عائلة في المخيم والأونروا عاملة حالها مش عارفة فيهن».

برج البراجنة | لم أزر مخيّم اليرموك يوماً، أو أياً من المخيمات الفلسطينية في سوريا. لكنني رأيتها في حرقة الفلسطينيين في لبنان ومقارناتهم الدائمة بها. فكما يُطرح عمل الفلسطينيات والفلسطينيين وإعطاؤهم حق الاستملاك في علاقة حتمية مع وحش التوطين، كانت قصص مخيمات سوريا ووضع الفلسطينيين هناك، قصص حلم لفلسطينيي لبنان من جهة، وحجّة إثبات أن إعطاء الفلسطينية والفلسطيني حقوقهما لا يعني توطينهما... أو بالأحرى أنهما لا يستبدلان أرضهما بأيّ أرض أخرى. لكن من الصعب على من لا يفهم قيمة الأرض وفقدانها، أن يفهم هذه العلاقة... الجدلية.

مخيمات سوريا هي إذاً، في مكان ما، حلم أهالي مخيمات لبنان: دولة تعترف بهم واحتفاظ تام بالهوية والانتماء.

نحن الآن في المقلب الآخر: كيف يرى نازحو سوريا مخيماتنا الوطنية؟

«حريّة؟ يلعن أبو هيك حرية خربت بيوتنا»، يبدأ الشاب الثلاثيني كلامه. واحدة وعشرون هي الأيام التي افترق فيها عن مخيم اليرموك... ولجأ إلى مخيم برج البراجنة، إلى بيت من لا يعرفهم ويعرفونه، مع أولاده الثلاثة وزوجته. «جيت على لبنان على أساس أنصب خيمة عالبحر وأنام فيها مع عيلتي. ما بعرف حدا هون». فبعد أن نزح مرّتين من المخيم إلى مخيّم آخر (خان الشيح)، سُدّت كل المنافذ في وجهه، وازداد القصف واقترب، فاضطر إلى النزوح إلى لبنان مع عائلته، حيث استقبلته إحدى عائلات البرج.

الأكثرية هنا من مخيم اليرموك. يصفه لي أحد اللاجئين للربط بين ما يحصل وما نسمعه على الأخبار. «مخيم اليرموك على الحدود بين الشام وريف الشام. فيه «الدوّار»، «شارع الثلاثين»، «شارع اليرموك» و«شارع فلسطين» متوازيان. حولهم هناك القدم، يلدا، حي التضامن والحجر الأسود وكل المناطق اللي عم بيصير عليها قصف». المخيم محاط بمناطق الأزمة، وقد وصلت المعارك أخيراً إلى داخل المخيم. أسأل عن مخيم اليرموك، هل يشبه هذا المخيم؟ يضحك محدّثي وزوجته. «متل هون؟ نحنا مش شايفين شي متل هون». هم في العشرين يوماً التي قضوها هنا لم يعرفا سوى زواريب المخيم، غياب الضوء من البيوت، انقطاع الكهرباء وشحّ المياه... وكزدورة يتيمة في الضاحية. «كيف بدّك قلّك كيف شكلو المخيم؟» يحتار الرجل قبل أن يضيف «... أحلى من الضاحية بكتير»! ثم تكلّمني نساء عن «صدماتهن» بعد اللجوء. ينظرن إليّ، يلمنني على أسئلتي، ثم يضحكن: «أوّل ما وصلنا، كنّا نضرب ولادنا من ضيق الخلق والتعصيب. البيت ضيق ونحنا 20 شخص، وحتّى برّا ضيّق، وإذا فتحتي الباب الولاد بيكرجوا ع الشارع...».

لم تعتَد هؤلاء النسوة حتى الآن التغيير الجذري الذي حصل في حياتهنّ. انقلبت حياتهنّ وحياة أزواجهنّ وأولادهن من مواطنين معترف بكامل حقوقهم، يعيشون في مبانٍ عالية وبيوت واسعة تحيط بها أسواق مزدحمة حيّة، في مدينة لا تنفصل عن «المخيم»... إلى مخيمات لبنان.

«لمّا كانوا قرايبنا من مخيم البرج يخبّرونا عن وضع المخيم وشرايط الكهربا والحواري الضيقة والميّ المقطوعة... ما كنّا نصدّق». تكلّمني الحماة الخمسينية وحولها كنّاتها يلففن أوراق «اليبرق» رفيعة صغيرة، وهن يعطينني وصفة الحشوة بالأرز مع العصفر. هنّ مصدومات ممّا يرونه هنا. لا شيء يشبه ما يعرفنه عن «المخيم». «بتعرفي كيف المخيم عنّا؟». يرسمنه لي بكلماتهن، «أحلى من بيروت». «شوفي كيف الشباك في حيط قدّامو! مفكّرة عنّا هيك باليرموك؟».

لا أحد سعيد هنا إلا الأطفال. يلعبون في الأزقّة دون مدارس. فقليلون هم من سجّلوا أولادهم في مدارس الأونروا لأنهم لا يعرفون إن كانوا سيعودون غداً... ولأن الأونروا طلبت منهم أن «ينقلوا طلب التسجيل من مدارس سوريا إلى لبنان»، وهو أمر مستحيل في هذه الأثناء.

بكلمات قليلة، يحكي اللاجئون سبب هربهم. «وصل جوزي عالبيت متل المجنون. قلّي في إيدين مقطّشة عالطريق والناس عم تدعس عالأصابع». يا إلهي. هل شهدتم مجازر؟ تقول: «لأ. بس في جورة بآخر الشارع، حافرينها ليعمّروا بناية. صارت كلها زبالة وجثث. كلّو منفّخ ومزرق». وكأننا نسمع قصص حربنا الأهلية. وكما فعلت مذيعة الدنيا «الشهيرة»، مع الجرحى والمصدومين في مجازر سوريا، تتنقّل الكاميرات بين بيوت اللاجئين وتدخلها دون رادع. «أجت لعندنا ع البيت قناة بدها تصوّر غصب عنّا. قالولنا إنهم قناة القدس. صوّروا، ولمّا حضرناها، طلعت قناة «العربية»! وكلّ أسئلتهن :»مين عم يقتّل، مين عم يعمل المجازر؟».

ولذلك، يشترك كل من قابلناهم تقريباً في همّ واحد: لا يريدون أن نصوّرهم أو أن نسجل أحاديثهم. احتراماً لتلك الرغبة اخترنا ألا نفعل، وأن ننشر صوراً عامة للنازحين.

من جهة أخرى، يعاني اللاجئون... من لجوئهم. ليس غياب المساعدات ما يعاني منه النازحون الفلسطينيون. الأونروا غائبة أكيد، لكن العديد من المؤسسات الإسلامية (أجندة سياسية؟) تدعمهم بالقليل. المشكلة ليست هنا. المشكلة هي أنه لا ينبغي أن يحتاجوا إلى مساعدات أصلاً. المشكلة هي أن أصحاب القضية الواحدة، من لبنانيين وفلسطينيين، والمنتمين إلى نفس الطبقة والذين يعانون من نفس الظلم، حالياً أو في ما مضى حين لجأوا يوماً، هؤلاء هم من يجب أن يتحمّلوا مسؤولية اللاجئين الجدد. كيف؟ لنبدأ بأقل الإيمان، وهو أن يتوقّف استغلال وضع اللاجئين وحاجتهم إلى مأوى. بيت إيجاره 120 دولاراً أصبح يؤجر بين 300_400 دولار، في مخيم البرج. والمحال، والصيدليات... لا ينجو أحد من الاستغلال. ألم يكن هؤلاء المستغلّون أنفسهم يوماً لاجئين؟ ألم يعرفوا يوماً معنى الحاجة والعوز؟ وحتى لو لم يعرفوهما، ما معنى استغلال شخص عندما يكون في أكثر الأوضاع... هشاشة. الإنسان هشّ عندما يخسر أهله وبيته وما يعرفه عن الحياة... هشّ إلى حدّ الانكسار، الانهيار. يصبح الإنسان بهشاشة الحياة.

ليسوا بحاجة إلى كوبونات الطعام، لكن لتغيير طريقة التعامل معهم. بحاجة إلى عدم دفع الـ300 دولار إيجار المنزل، والـ50000 ليرة التي تقتطعها الدولة اللبنانية (نائية بنفسها بشدّة) من كل شخص منهم، كلّ 15يوماً، ضريبة (كتأشيرة دخول من الأمن العام)، وكأنهم قادمون للسياحة في لبنان.

آتين ممّا كان لهم جنّة، يعرف الكثير من اللاجئين الفلسطينيين اللجوء و«التعتير» وعذاب فقدان المنزل لأول مرّة... وكأنه واجب على الفلسطيني أن يذوق هذه المرارة. البارحة كان عيد ميلاد إليان، لاجئة في الثانية من عمرها. تمنّيت لها شيئين: ألا تبقى لاجئة وألا تذكر ما تعيشه هنا...

يضحك اللاجئون وهم يروون قصص العصابات. كان المعارضون يستأجرون السيارات من المخيم، ويقودونها حتى حمص. ثم يتّصلون بصاحبها ليأتي ويسترجعها بجزء من سعرها، «دعماً للثورة». الأسلوب نفسه الذي تستعمله عائلات في مناطق لبنانية... إلا أنهم في لبنان يعتبرونهم «حرامية» و«قطّاعي طرق».

المصدر: الأخبار