لبنان..
الوحدة حول فلسطين
بقلم:
معين الطاهر
تبقى
الأمور في لبنان على ما هي عليه، ولا تتزحزح مكونات الطبقة السياسية إلا بمقدار
طفيف. لم تفلح المحاولات السابقة لتحقيق تغيير أساسي في بنية النظام اللبناني،
وإذا كان وجود المقاومة الفلسطينية قبل 1982 قد شجع أطرافاً في الحركة الوطنية
اللبنانية على المطالبة بتغيير بنية النظام الطائفي، وأطرافا إسلامية تقليدية على
محاولة إجراء تعديلات من داخل البنية الطائفية للنظام، إلا أن استمرار النزاع
الأهلي، بعد الخروج الفلسطيني من بيروت، والذي امتد من اقتتال بين الطوائف إلى
نزاع دموي داخل كل طائفة، قبل أن يستقر الأمر، وفي ظل النفوذ السوري، وبعد رحيله،
إلى إعادة تشكيل الطبقة السياسية، وفق اتفاق الطائف (1989)، مع تعديلات طفيفة
تتلاءم مع موازين القوى الإقليمية، وإن كانت لم تتجاوز البنية التقليدية للنظام
اللبناني، لكنها أسفرت عن استبدال بعض رموز الإقطاع السياسي التقليدي بنخبٍ نمت في
ظل ظروف الحرب الأهلية، وتمكّنت من استبعاد قيادات تقليدية سابقة. ولكن، من
المنظور والإنتماء الطائفي ومعادلاته نفسه.
ما
زال لبنان مقسماً بين معسكرين، يحظيان باستقطاب واسع بين الجمهور، ويعطل انتخاب
رئيس للجمهورية التي انتقلت صلاحياته، في ظل شغور المقعد الرئاسي، إلى مجلس
الوزراء. وتلاحقه مشكلات متعددة ناجمه عن التصاقه التاريخي بالشقيقة سورية، وتدخل
بعض مكوناته في حربها المشتعلة بذرائع مختلفة، أقلها حماية محور المقاومة، فيما
يعجز عن إيجاد أماكن لطمر نفاياته التي تراكمت في شوارعه. وتفتق الحل العبقري عن
رفض كل طائفة أن تدفن نفايات الآخرين في منطقتها، وكأن لسان حالها يقول إن كلاً
أوْلى برائحته، في وقت كشف الحراك الشبابي الطموح عن فضائح وفساد كبير في ملف
النفايات، أقلها أن كلفة التخلص من النفايات في لبنان تزيد 70 دولاراً في الطن
الواحد عن الكلفة العالمية، وكان يتقاسم هذا الفارق مسؤولون في المخابرات السورية
في لبنان مع متنفذين آخرين .
في
لبنان، الكل مهموم ومشتغل في السياسة، إذا جلست في مقهى، تستمع مرغماً عنك إلى
حوار صاخب على الطاولة المجاورة، كما لا يبخل عليك سائق التاكسي بآرائه ونظرته إلى
ما يجري في لبنان والمنطقة. اللافت أن النخب المثقفة، في غالبيتها، بمن فيهم الذين
كانوا رفاقاً في النضال، وتجمعهم تنظيمات وأحزاب واحدة، تتجاوز نظرتها الواقع
المحلي إلى رؤى عالمية، تنادي بالحرية والعدالة، جذبتهم مناطقهم وطوائفهم، وإنْ
يعبرون عن مصالحها بطريقة أكثر ثورية، مستمدة من خبراتهم السابقة، مع محاولة منحها
تنظيرات سياسية تقنعهم بأنهم، ومن موقعهم الجديد، ما زالوا أوفياء لماض نضالي
قديم، على أن الخلاف مع الرفاق السابقين في مواقعهم الجديدة لا يفسد الود، بقدر ما
يضفي على الحوار إثارة واهتماماً أكبر.
فجأة
يختفي لبنان القديم الجديد وخلافاته وطوائفه ومناكفات أبنائه وحواراتهم الحادة،
عندما تتصدر فلسطين الأنباء. شهدت ذلك عند الجميع، وفي لقاءات في كل المناطق. لم
أسمع فيها رأياً مختلفاً عن الآخر، حتى تكاد تحسب أن لبنان بأسره توحد حول فلسطين
أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وأن الأخوة والرفاق تخلصوا من المناطقية والطائفية
والمذهبية بلمحة عين، وعادوا إلى سيرتهم الأولى. وعندما حدث التفجير الإرهابي في
برج البراجنة، وحاول نفر قليل الإيحاء بأن الإرهاب التكفيري انطلق من المخيم
الفلسطيني القريب، تصدى له الجميع بسرعة ووضوح، وشوهدت قيادات في مكان التفجير
تنفي ذلك، وتمنع اندلاع فتنة كبرى، وهو ما أكدته تحقيقات الأمن اللبناني الذي
تمكّن، بسرعة قياسية، من القبض على أفراد الشبكة الإرهابية.
أما
أوضاع المخيمات الفلسطينية في لبنان وسكانها، فما زال أهلها الفلسطينيون يعانون من
حرمانهم من الحقوق الأساسية في العمل، ولم تفلح محاولات وزير العمل اللبناني
الأسبق، طراد حماده، في منحهم مثل هذه الحقوق. لا يستطيع الفلسطيني اللاجئ أن يعمل
طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو صيدلانياً، وعشرات المهن الأخرى. تخرج نجل صديق
في مخيم القاسمية، قبل ثلاث سنوات، من جامعة عريقة، ولم يستطع أن يعمل سوى بضعة
أشهر في منظمة من المجتمع المدني، ثم جاءها قرار بأن لا تزيد نسبة العاملين
الأجانب عن 3%، ففقد وظيفته. وسمعت من السفير الفلسطيني في لبنان، أشرف دبور،
وقيادات فلسطينية، عن أعداد مرعبة عن معدلات الهجرة الفلسطينية من المخيمات، فمن
90 ألف لاجئ فلسطيني قدموا إلى المخيمات الفلسطينية من سورية، هاجر منهم نحو 60
ألفا. ولا يقل معدل هجرة أبناء المخيمات عن 5 آلاف شاب شهرياً، ما أحدث مشكلات
اجتماعية متعددة، من أبرزها العنوسة التي يحاول بعضهم حلها بالزواج المبكر، حيث
ترتبط الفتاة صغيرة السن بالشاب المهاجر، وتبقى في انتظاره إلى حين استقراره في
بلد المهجر، وتمكّنه من إحضارها، بعد ترتيب أوراقه، ما قد يستغرق سنوات.
طرق
الهجرة ومنافذها متعددة، ويتحكّم السماسرة والمهربون في معظمها، وتنذر بتفريغ
المخيمات الفلسطينية في لبنان من أهلها، وتنعدم فرص العمل للفلسطينيين، مع انسداد
أفق الحياة الكريمة أمامهم. وإلى وقت قريب، لم تكن قيادة منظمة التحرير تعطي
المخيمات في لبنان الاهتمام الذي يستحق، إذ اعتقدت أنه يمكن، ببساطة، تسليم الأمن
في المخيمات الفلسطينية لقوى الأمن اللبنانية، وتسليم السلاح المتبقي للسلطات،
وغابت عنها تعقيدات الوضع اللبناني وتداخلاته، وعدم جاهزيته لمثل هذه الخطوات.
ترافق ذلك مع تهاون السلطات الفلسطينية في حل مشكلات الحقوق الاجتماعية والإنسانية
للاجئ الفلسطيني، وفي مقدمتها حق العمل، مع تدني الخدمات الاجتماعية والصحية في
المخيمات. ونتيجة انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، وعدم تعديل الرواتب بما يعادل هذا
التراجع، هبط مخصص أسرة الشهيد إلى ما يعادل 20 دولاراً!، ومثله رواتب العاملين في
الدوائر المختلفة. لم تلتفت السلطات الفلسطينية إلى هذا الأمر إلا حديثاً، بعد أن
شهدت مخيمات الشمال سيطرة مجموعات فتح الإسلام على مخيم نهر البارد، ما أدى إلى
تدمير المخيم كاملاً وتهجير سكانه، وبعد أن تحول مخيم عين الحلوة في الجنوب إلى
مربعات منقسمة، تعج بالحواجز والمتاريس التي يتحصّن خلفها مجموعات تكفيرية مختلفة،
تأوي مطلوبين لبنانيين عديدين للسلطات، على خلفية أحداث وقعت خارج المخيم، ما جعل
مخيم عين الحلوة يكاد يواجه مصيرا مماثلا لنهر البارد.
ساعد
على الوصول إلى هذه الحال تخلي السلطات الفلسطينية عن مسؤولياتها الأمنية
والاجتماعية فترة طويلة، مع أن المسؤولين الفلسطينيين يؤكدون أنهم انتبهوا إلى
خطورة ما يجري في المخيمات في لبنان، وأنهم اتخذوا إجراءات لمعالجته، خصوصاً في
مخيم عين الحلوة، التجمع الفلسطيني الأكبر في لبنان، وتجنيبه مصيراً مماثلا لمصير
مخيم نهر البارد. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، نتيجة تشرذم العاملين في حركة فتح
واختلافهم، ودخول المطرود من الحركة، محمد دحلان، على خط المخيمات من بوابة
المساعدات الاجتماعية وبعض الكوادر في صيدا وبيروت، وتراجع أداء الفصائل
الفلسطينية، وتأثيرات الانقسام الفلسطيني المستمر، إضاقة إلى تداخلات الوضع
اللبناني في الوضع الفلسطيني، وانعكاس خلافاتهم عليه.
في
حرب 2006، احتضنت المخيمات الفلسطينية مئات العائلات الجنوبية في منازلها، كما
أقيمت مراكز إيواء في المدارس، ووضعت سيارات الإسعاف وطواقمها بتصرف المقاومة،
وتكفلت مخابز مخيم الرشيدية بتوفير الخبز اليومي للمقاتلين والأهالي. وعزز ذلك من
الألفة القديمة بين المخيمات وأهل الجنوب اللبناني، وساهم في تبديد سحبٍ كانت
عالقة من مرحلة مضت. وأثبت ذلك أن مواجهة العدو الصهيوني توحد الجميع، وتجب أي
سلبيات وشكوك وخلافات، كما يجتمع، اليوم، كل رفاق الأمس على موقف موحد من فلسطين
وانتفاضتها. وذلك يستلزم نظرةً أبعد من مختلف القوى، لا أظنها تبلورت، أو خرجت عن
الإطار السياسي النظري تجاه ما ينبغي عمله إزاء تطورات الانتفاضة على الساحة
الفلسطينية. ومن شأن هذه الانتفاضة المباركة أن تعيد فلسطين قضية مركزية إلى الأمة
العربية، وقد تكون طوق النجاة باتجاه الخلاص من الفتن والانغماس في الحروب
الأهلية، وتسرع اللجوء إلى الحلول السياسية الداخلية، وسيلة وحيدة للحفاظ على وحدة
الأمة بكل مكوناتها، بعيدا عن الاستبداد والتكفير والإقصاء والفساد، تمهيدا
لمواجهة خطر أعم وأشمل. حينها، علينا أن نتوقع دوراً مختلفا للبنان ولجنوبه،
باتجاه فلسطين.
المصدر:
العربي الجديد
معين
الطاهر
كاتب
وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى
للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات
اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي
النبطية الشقيف 1982.