لتنتصر القدس على نكساتها
براءة درزي- بيروت
منذ
نكسة عام 1967، تتوالى على القدس النكسات تجرها على المدينة ممارسات بدأتها
"إسرائيل" منذ ضمَّت شرق القدس إلى الجزء الغربي الذي احتلته عام 1948.
وترزح القدس اليوم تحت ثقل احتلال يصادر أرضها، ويستغل مقدراتها، وينتهك مقدساتها،
ويقسّم أحياءها ويضيّق الخناق على أهلها ويهدم بيوتهم ويهجرهم.
وبالتزامن
مع الذكرى السادسة والأربعين لاحتلال شرق القدس، نشرت صحيفة "جيروزاليم
بوست" استطلاعًا أجراه معهد رافي سميث ريسيرتش كومباني يظهر رفض 74% من
العينة التي شملها هذا الاستطلاع أن يصبح شرق القدس المحتلة عاصمة لدولة فلسطينية،
ويفضلون أن تبقى المدينة موحدة تحت السيادة الإسرائيلية. ويتناغم هذا المزاج
الشعبي في دولة الاحتلال مع ما تحيكه السلطات الرسمية من مخططات وما تقدم عليه من
ممارسات سعيًا إلى تهويد المدينة وابتلاعها عبر سياسات تطال كل نواحي الحياة في
المدينة المقدسة.
تخضع
القدس منذ احتلالها لكمٍّ من السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تغيير وجه المدينة
العربي والإسلامي وتحاول هذه السياسات إبدال كل ما هو عربي بآخر عبري، وإضفاء طابع
يهودي على كل ما هو إسلامي وهدفها السيطرة على القدس كاملة وتكريسها عاصمة موحدة
للدولة العبرية. ولا يبدي المسؤولون الرسميون في دولة الاحتلال أي حرج في إعلان
التمسك بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ومن ذلك ما صرّح به وزير المال يائير لبيد في
مقابلة مع "نيويورك تايمز" نشرت في 20/5/2013 حيث قال إن القدس ستكون
دائمًا عاصمة لـ"إسرائيل" ولا يمكن أن تكون عاصمة لفلسطين.
وتواجه
القدس مجموعة من المخاطر يبرز في مقدمتها الاستيطان الذي تعتمده سلطات الاحتلال
وسيلة لتعزيز الوجود اليهودي في شرق القدس وقلب الميزان الديموغرافي لمصلحة
اليهود. وقد بلغ الاستيطان أوجه عام 2012 وفقًا لتقرير نشرته "هآرتس"
العبرية حيث بيًنت أن عدد الوحدات الاستيطانية التي بنيت في القدس كان بمعدل 726
وحدة خلال العشر سنوات الأخيرة، في حين شهد عام 2012 تجاوزًا غير مسبوق لهذه
الأرقام ليس فقط في عمليات البناء الفعلي والعطاءات التي طُرحت، وإنما في القرارات
التي اتخذتها حكومة الاحتلال والجهات ذات الاختصاص، حيث بلغت الوحدات الاستيطانية
التي تنوي حكومة نتنياهو بناءها في مدينة القدس 6,932 وحدة استيطانية، وهذا الرقم
غير مشمول فيه مخططات البناء في منطقةE1التي تهدف إلى ربط مستوطنة
"معاليه أدوميم" في الضفة الغربية بالقدس المحتلة. وتحرص التصريحات
الرسمية في دولة الاحتلال على تأكيد الاستمرار في الاستيطان في القدس كسياسة ثابتة
وليس آخر هذه التصريحات ما أدلى به نائب وزير الجيش داني دانون في احتفال في
9/5/2013 أعلن فيه ألّا توجه إلى تجميد الاستيطان. وفي القدس اليوم حوالي 200 ألف
مستوطن من أصل 500 ألف مستوطن في عموم الضفة الغربية تسعى "إسرائيل" إلى
استجلاب المزيد منهم لتعزيز الوجود اليهودي في شرق القدس على حساب الوجود العربي
فيها، وتاليًا، فرض معادلة ديموغرافية تتحكم هي بعناصرها ومكوناتها.
وفي
مقابل تعزيز الوجود اليهودي في شرق القدس، تعمل سلطات الاحتلال على تقليص الوجود
العربي عبر سياسات متنوعة لعل أبرزها سياسة هدم المنازل وتهجير المقدسيين وحملهم
على ترك مدينتهم. فسلطات الاحتلال صادرت حوالي ثلث أراضي الفلسطينيّين في القدس
منذ عام 1967 لتبني عليها آلاف الشقق للسكّان اليهود وهي تمنع المقدسيين من البناء
وتتقشف في منحهم التراخيص ومن ثم تعمد إلى هدم ما بنوا بحجة عدم الترخيص. وقد بلغ
عدد المنازل المهدمة بين من 2004 حتى أوائل 2013 بذريعة البناء دون ترخيص حوالي
442 وحدة سكنية وتشرد نتيجة لذلك 1,764 شخصًا. وبالإضافة إلى ذلك، تعمل سلطات
الاحتلال على تقليص عدد المقدسيين عبر نزع بطاقات الإقامة الإسرائيلية منهم حتى
بلغ عدد المنزوعة هويتهم 14,263 مقدسيًا بين عامي 1967 و2012، منهم 116 شخصًا في
2012. ويضاف إلى هذه الممارسات إقدام سلطات الاحتلال على تطويق القدس بجدار الفصل
العنصري الذي عزل حوالي 50,000 مقدسي عن مركز المدينة بات عليهم عبور الحواجز في
كلّ يوم لتلغي التعليم والعلاجات الطبّـيّة والقيام بالزيارات العائليّة وغيرها.
وانعكست
السياسات الاحتلالية المستمرة منذ بدء احتلال القدس على حياة المقدسيين فقرًا،
وتهميشًا، واقتصادًا متراجعًا. فقد كشف تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة
والتنمية (أونكتاد) في أيار 2013 أن الإهمال الإسرائيلي يعرقل التنمية في الجزء
الشرقي من القدس حيث تعيش 77% من الأسر غير اليهودية تحت خط الفقر مقابل 25% من
الأسر اليهودية. كما ذكر التقرير أن 84% من الأطفال المقدسيين يعيشون تحت خط الفقر
مقابل 45% من الأطفال اليهود، وذلك في إشارة إلى تفاوت السياسات التي تتبعها سلطات
الاحتلال في القدس المحتلة.
وبموازاة
كل الانتهاكات التي تتعرض لها القدس على أيدي الاحتلال، ينال المسجد الأقصى حظًا
وافرًا من الاعتداءات ما بين اقتحامات ودعوات إلى التقسيم ومطالبات بالسماح لليهود
بحرية الصلاة في المسجد في ظل التمسك بسراب "المعبد". ويتعرض المسجد
لاقتحامات ينفذها مستوطنون ومتطرفون يهود بشكل شبه يومي وسط حماية من شرطة
الاحتلال، في وقت تطالب جمعيات يهودية متطرفة ونواب في "الكنيست" بتشريع
الاقتحامات وبتقسيم المسجد زمنيًّا بحيث تخصص أوقات لصلاة المسلمين وأخرى لصلاة
اليهود كل على حدة.
وإذ
ينقضي ستة وأربعون عامًا على "نكسة" فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، فإن
الموقف الرسمي لا يزال يشكل، في معظم توجهاته، نكسة للقضية الفلسطينية، وللقدس على
وجه الخصوص، والمطلوب مغادرة مربّع التصريحات والبيانات والاستجداءات واتخاذ خطوات
عملية من شأنها الضغط على الاحتلال لوقف اعتداءاته المتمادية. أما على المستوى
الشعبي، فلا بد من التشديد على أن القضية الفلسطينية تبقى جوهر قضايا الأمّة ما
يلزم وضعها في مقدمة الهم والاهتمام الشعبي، وتفعيل التحركات التي تشكل رسائل
رافضة للاحتلال ووسيلة من أجل الضغط على الحكومات العربية والإسلامية لاتخاذ موقف
قوي وحاسم في مواجهة سياسات الاحتلال وممارساته في القدس، وعموم فلسطين.
المصدر: البراق، عدد حزيران
2013