لرمضان... طعم مختلف في مخيمات اللجوء
بقلم: لبابة ذوقان - نابلس
عادة ما تقترن كلمة لاجئ بمشاعر سلبية وأجواء حزينة لما تسترجعه تلك الكلمة من أحداث وذكريات تأبى أن تضع نفسها إلا في خانة النكبات المتلاحقة التي عاشها الشعب الفلسطيني. لكن اللاجئ في المخيمات الفلسطينية يشعر بلذة خاصة في شهر رمضان المبارك، حيث تعبق رائحة التواصل والمحبة وتنتشر في زقاق المخيمات، بينما تتزين البيوت المتلاصقة بأضواء شهر الخير والبركات وأنواره، لتعكس صورة النكبة واللجوء لصورة مضيئة مشرقة بمشاعر الأمل بحياة أفضل.
وتتجلى تلك المشاعر والأجواء الرمضانية الجميلة في "شارع السوق" في مخيم بلاطة للاجئين شرق مدينة نابلس شمال الضفة المحتلة، حيث يعجّ الشارع الرئيسي بالمخيم بحركة كبيرة ونشطة خلال أيام شهر رمضان المبارك، فتنتشر عربات الباعة المتجولين التي يتضاعف عددها مع بدء شهر الخيرات.
أضواء الأمل
وفي مشهد ينتظره أطفال المخيم كل عام، وما إن يعلن حلول شهر الصيام، تعلق الأضواء والأنوار على نوافذ البيوت وأسوارها في كل مكان بالمخيم، حيث لا يكاد يخلو بيت منها، فيُسر الناظر إليها، وتنسيه قليلاً عتمة المخيم وضيق المساحة التي يسير بها واكتظاظ الناس من حوله!
أما عن ساعة الذروة في "شارع السوق" التي تسبق أذان المغرب بساعة، فلها وصفها الخاص ونكهتها المميزة في المخيم، حيث لا تكاد تجد مكاناً لوضع قدمك والسير هناك... أطفال ورجال وشبان يملؤون الطرقات. أكثرهم يتزاحمون حول "بسطات" شراب التمر الهندي وعرق السوس والعصائر التي تلقى رواجاً في رمضان أكثر من غيره، إضافة إلى تسابق الناس لشراء الحلويات الشعبية كالعوامة والقطايف التي تلقي بنكهتها المميزة على مائدة الإفطار.
ولطبيعته الساحرة بكل شيء، يمثّل شهر الصوم موسم رزق وخير وافر لكثير من الشبان العاطلين من العمل، حيث يجد الشاب "محمد سوالمة" ضالته في هذا الشهر من خلال عمله في بيع العصائر الباردة والمصنوعة بنحو محترف.
ويقول محمد سوالمة (28 عاماً) لـ"العودة": "خلال أشهر السنة أتنقل من عمل إلى آخر، ومعظم الأشهر لا أجد عملاً أقتات منه أنا وأسرتي المكونة من ستة أفراد. لكن مع قدوم رمضان يأتي الخير كله، فأعمل في بيع العصائر الباردة التي أصنعها بيدي في المنزل، حيث لا تكلفني موادها الخام سوى القليل، لكنها تعود بربح جيد عليّ".
ويضيف: "الناس في المخيم اعتادوا وجودي وبيعي كل رمضان، ولي زبائن من مختلف حارات المخيم والحمد لله".
ويصف محمد حركة السوق قبل أذان المغرب بساعتين وأقل بأنها قمة الذروة في البيع وحركة الناس، ويقول: "قبل موعد الأذان بقليل، يكون البيع على أشده، ولطبيعة الجو الحار فالناس يطلبون العصائر الباردة بكثرة، وخاصة شراب التمر الهندي الذي له شعبية كبيرة هنا".
نكهة خاصة
وللحلويات داخل المخيم نكهتها الخاصة أيضاً في رمضان، حيث تشتهر بعض العائلات بإتقان صنع أصناف معينة من الحلويات الشعبية التي يرغبها الكثيرون في المخيم، ويفضلون وجودها كطبق مكمل لمائدة الإفطار.
السيدة أم لؤي تسكن بالقرب من شارع السوق في المخيم، تقول لـ"العودة": "إنه أمر مفروغ منه أن يكون هناك طبق حلوى على المائدة كل يوم، وعادة ما يكون طبق العوامة حاضراً كشيء رئيسي بجانب العصائر طبعاً".
وتضيف: "عندنا في المخيم تشتهر الحلويات عند محالّ أو عائلات معينة تجيد صنعها، وفي كل رمضان يكون الإقبال عليها أمراً مفروغاً منه؛ فالشراء منها يوفر علينا الذهاب إلى مدينة نابلس، والأسعار هنا أرخص بالنسبة إلينا".
ولكونها بيوتاً متلاصقة، تتلاصق معها المشاعر والصلات الأخوية، فما إن تُعَدّ مائدة الإفطار ويُسكب الطعام في الأواني.. إلا تكون هناك أطباق تسكب خصيصاً لجار عزيز أو عائلة مستورة، ليوثق بذلك أهالي المخيمات أواصر المحبة في شهر الرحمة.
وتأكيداً لذلك، تبدي الحاجة أم طلب سعادتها وهي تُعدّ طعام الإفطار وتخصّص حصة منه لإحدى العائلات المستورة في المخيم، وتقول لـ"العودة: "في معظم أيام رمضان نشارك أحد الجيران أو إحدى العائلات المستورة في طعامنا؛ فالطعام وافر والخير كثير في رمضان، وروائح الطعام تختلط في ما بينها بزقاق المخيم. لذلك، لا بد أن يتفقد بعضنا بعضاً، وخاصة العائلات التي لا تجد ما تأكله بسبب الفقر والبطالة وقلة ما في اليد".
وتشير أم طلب إلى أن أهالي المخيم معتادون تفقدَ بعضهم في الطعام أو حتى الحلويات التي يصنعونها باقي شهور السنة، لا في رمضان فقط. وتتابع قائلة: "نعيش في المخيم وكأننا عائلة واحدة، وخاصة مع الجيران الذين يشاركوننا الزقاق نفسه وجدران بيوتهم مشتركة بيننا وبينهم. هذه هي طبيعة المخيم، وهكذا حتمت علينا الحياة هنا. كل شيء مشترك، همومنا مشاكلنا وأفراحنا وحتى طعامنا".
أطفال المخيم في رمضان
وما إن يرفع أذان المغرب ويحين وقت الإفطار، يخلو "شارع السوق" وشوارع المخيم الأخرى وزقاقه من المارة، ويسود الهدوء المكان، ولا يسمع في الزقاق سوى أصوات الأواني وأحاديث الناس أثناء تناولهم للإفطار، بينما يسارع الأطفال إلى تناول الطعام للخروج للعب في "الحارة"، حيث ينتشر أطفال المخيم في حارات المخيم وأزقته، وتعلو أصوات لعبهم ولهوهم بعد يوم صيام طويل. ولعل اللعبة الأكثر شعبية في شهر رمضان هي تقليد المسحر، حيث يحمل الأطفال أواني معدنية ويطرقون عليها ويرددون العبارات التي يقولها المسحر وقت السحور.
الطفل قصي عدنان (11 عاماً) من مخيم بلاطة يجد متعة خاصة في تقمص شخصية المسحر في رمضان، ويقول لـ"العودة": "أجمل شيء في رمضان عندما نرى المسحر وقت السحور، فهو يمر بالقرب من بيتنا ويقول: يا نايم وحِّد الدايم.. قوموا على سحوركم رمضان إجا يزوركم".
ويضيف قصي وبراءة الطفولة تشع من عينيه: "بعد أن نفطر نلعب أنا وأصدقائي وأبناء الجيران لعبة المسحر، ونحمل أواني حديدية أو طبلة وندق عليها ونردد ما يردده المسحر، ونجول في حارات المخيم".
كذلك يشتهر أطفال المخيمات بلعب لعبة "جيش وعرب" بعد الإفطار، وتنتشر بينهم الأسلحة البلاستيكية والمفرقعات، في محاكاة لما يرونه في حياتهم اليومية التي تشوهها اقتحامات جنود الاحتلال لمخيماتهم ومدنهم وبيوتهم، فتتحول حارات المخيمات إلى ما يشبه ساحة حرب حقيقية بفعل أصوات المفرقعات والألعاب النارية والأسلحة البلاستيكية.
وما إن يحين موعد صلاة العشاء والتراويح، حتى يعج "شارع السوق" بالحياة من جديد، ويكتظ المارة فيه، يتسابقون للدخول إلى المسجد لأداء الصلاة جماعة في مشهد ترتاح له النفوس وتشتاق له القلوب.
وفي هذه الأثناء يجد الباعة وأصحاب البسطات أيضاً فرصتهم لترويج الخضار والفواكه والعصائر الباردة التي تكون هدفاً للعطاشى بعد يوم صوم طويل.
عادات رمضانية متوارثة
ويحرص أبناء المخيمات على الحفاظ على العادات والتقاليد التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم من توطيد لصلة الرحم وإقامة الولائم في شهر رمضان، فيحرص كل أب على زيارة بناته وأخواته خلال شهر الخير، حاملاً معه الهدايا وبعضاً من المواد التموينية التي تلزم كل بيت خلال شهر رمضان المبارك.
وعن العادات السائدة لدى معظم العائلات في المخيمات الفلسطينية تقول الحاجة أم مصعب من مخيم العين للاجئين شرق نابلس: "مع بداية كل رمضان نزور بناتي الثلاث المتزوجات، ونأخذ معنا هدايا لهن، وفي غالب الأحيان ما تكون الهدية عبارة عن أرز وسكر وبعض المعلبات".
وتشير أم مصعب إلى أن زوجها يحرص كل رمضان أيضاً على دعوة بناته وشقيقاته على مائدة الإفطار في منزلهم، وتضيف: "نخصص يوماً لدعوة بناتي جميعاً وأبنائهن وأزواجهن ونعد وليمة كبيرة على الإفطار، ونجتمع كلنا في جو يملأه المرح والمحبة، ويكون الأطفال في غاية السعادة لاجتماعهم في هذه المناسبة التي توطد العلاقات وأواصر المحبة بين الجميع".
هكذا يمضي اللاجئ الفلسطيني في مخيمات اللجوء يومه في شهر رمضان المبارك، محاولاً أن يتناسى قليلاً هموم حياته التي أثقلها الفقر والبطالة وتقليص الخدمات المقدمة لهم من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، إضافة إلى المعاناة الكبيرة جراء اكتظاظ السكان في مساحات صغيرة ومحدودة لم تتغير منذ إقامة تلك المخيمات منذ أكثر من ستين عاماً!
المصدر: مجلة العودة العدد التاسع والخمسون