لعياش (نهجاً) بعد عشرين عاما
بقلم: لمى خاطر
حين نقف أمام ذكرى عظيمة لقامة
كبيرة، وحين نلمس كل عام في ذكرى رحيلها أثراً للوجع والحسرة يوازي أثر الفخر والاعتزاز،
وحين نترحّم على زمنها أو نعي بأنه لا يزال يتجدّد في صور وقامات أخرى، فإن الأمر يتجاوز
مجرد الرغبة في الإحياء التقليدي للذكرى.
وهذا ما يحصل في ذكرى رحيل
العياش كل عام، لأنه حاز أطراف المجد كلّها؛ إخلاصاً وتخطيطاً وإثخاناً وديمومة، ثم
استمرار دفق الحياة في نهجه ومساره بعد رحيله، وفي حضوره كرمز جهادي قلّ أن يتجاوزه
أحد على الصعيد الفلسطيني.
ولأن عيّاش كان مدرسة، فإن
من لم يعايشوا أيامه، ولم يلمسوا مباشرة ذلك الندى الحميم وهو يهطل على أفياء قلوبهم
مع كل عملية من تخطيطه، فتهتزّ وتربو وتورق أملاً ويقينا، هؤلاء تحديدا بحاجة إلى استلهام
الدروس العياشية على الدوام، وعلى الأخصّ منهم أولئك الذين لم يديروا ظهورهم للجدار
حين استحكم وعلا وماتت على أعتابه خطوات كثيرة، بل أصروا على البحث عن ثغرة فيه، أو
نحته بما تيسّر لهم من أدوات، (لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا).
ولعلّ أهم ما جادت به المدرسة
العياشية من عِبر للمتقدمين على الدرب ذاته، ولطلاب الجهاد والثورة في صفوفها هي العمق
والذكاء وإحكام التخطيط تمهيداً لتحصيل الإثخان، هذه القيمة العظمى في فلسفة المعارك،
والتي لا ينهزم عدوّ أو يتحقق انتصار بدونها، والتي يتجنّبها بعض المرتجفين ويحيّدونها
من حسابات العسكرة خشية من ويلاتها، أو توهّماً منهم بأن ثمة فرقاً بين ويلات تأتي
بالتقسيط وأخرى تتحصّل دفعة واحدة. وكأن مرور كل تلك العقود على احتلال فلسطين والعجز
عن تحريرها أو إدماء محتليها كما يجب؛ لا يبدو دافعاً ملحّاً لمسارات عنيفة لا تكترث
بنداءات التعقّل، فيما الحريق الصهيوني يمتدّ ويشتدّ بإثخان أو بدونه.
إن من تجليات قيمة الإثخان
في العدوّ أنها تعين على فهم ذلك الفرق الشاسع بين الباحث عن حرية والمكتفي بتحسين
ظروف عبوديته التي رضي بسقفها ابتداءً، وظلّت الخشية من فقدان امتيازاتها الهزيلة تشغله
وتقعده، وتحدد له فكره وطاقته ومدى نظره ومقياس طموحه. وذلك الفهم كان العياش وصحبه
ومن لحق بهم على درب المنهج ذاته قد فقهوه جيّداً يومَ تجرّدوا من كلّ اعتبار إلا الإعداد
والتطوير بما يساعد على إيقاع الضربات المؤلمة للاحتلال التي تدمي جسده، وتفتت أمنه،
وتؤسس لنقلات نوعية في المراحل، تعصف بجمود اللحظات البطيئة وتتجاوز أحلامها الباهتة
وأدواتها العقيمة.
والانتفاضة اليوم، وهي تجود
بفرسان استثنائيين في إقدامهم، استنفذوا وسعهم وما يملكون من أدوات، فجاهدوا بها وأبوا
الانتظار العبثي الذي لا يقود إلا إلى شيوع نزعات النكوص والإغراء بالاستسلام أو التسليم
بقهر الواقع، تبدو هذه الانتفاضة في أمسّ الحاجة لتلك اللحظة النوعية التي ستنقلها
آلاف الخطوات إلى الأمام يوم يبزغ في سمائها ما بزغ في عهد الانتفاضتين السابقتين من
نجوم فريدة، تطلع فتبهر الدنيا بنورها، وتضيء فيدوم سطوعها ويمتدّ أثره لأعوام مديدة،
ويبقى ذكرها خالداً وضياؤها هادياً ومعلّما.
وحين نقول بعد عشرين عاماً
على رحيله إن (عياش قادم) فهذا ليس إفراطاً في التفاؤل، بل لأن بيئة المواجهة هي فقط
من تصنع التغيّرات الاستثنائية، على العكس من بيئة الجمود والتراجع، ولذلك نرى الصهاينة
وعملاءهم يعملون على حصار هذه الانتفاضة وإجهاضها تخوّفاً من مآلات تطوّرها اللاحقة.
سلامٌ على العياش في ذكراه
كلّ عام وحين، والمجد لمن اقتفوا أثره وأدركوا جوهر نهجه ومبتغاه، فظل غيث الجهاد في
فلسطين يجود بهم، وظلوا يسلّمون الراية من جيل إلى جيل، دون أن يقعدهم تعب أو تعيقهم
طريق، حتى وإن تكاثر فيها اليائسون.