لماذا لجأ الفلسطينيون إلى لبنان؟ لا تحاولوا السؤال، فمدارس لبنان لن تجيب!
بقلم: د. فرنكلين لامب
ترجمة: زينب عبدالله
خلال ورشة عمل أقيمت العام الماضي في الجامعة الأميركية في بيروت حول موضوع منح اللاجئين الفلسطينيين الحق في العمل وفي امتلاك المنازل، طرحت إحدى طالبات التجارة في الجامعة، وهي من قرية بكركي المسيحية، سؤالا فاجأ بعض الحاضرين إذ قالت:
"لماذا لا يذهب الفلسطينيون إلى بلدهم إذا ما كانوا غير مرتاحين هنا؟ ولماذا قد تحملوا أصلا عناء المجيء إلى هنا؟"
إلا أن "كارولين" لم تكن عدائية. فمعظم الشباب اللبنانيين يتعلمون في مدارس خاصة ودينية بحسب الطوائف المختلفة التي تتخلل مناهجها مواضيع مسيسة ومنحرفة إلى حد كبير، وأكثر هذه المواضيع تسييسا هو تاريخ لبنان المعاصر.
وعندما تحدثت مع كارولين خلال الإستراحة، قالت إنها تشعر بأنها موجهة سياسيا بشكل كبير، إلا أنها اعترفت بأنها في الواقع لا تعرف الكثير عن التاريخ اللبناني، كما وتعرف شيئا بسيطا عن سبب وجود الفلسطينيين في لبنان. وما تعرفه، بحسب شرحها، مصدره أهلها وأفراد عائلتها وليس المدارس في قريتها الصغيرة مركز البطريركية المارونية حيث تعمل كارولين بصفة متطوعة لجزء من الوقت في خدمة الأطفال الأيتام.
وفي معظم المدارس الخاصة والرسمية في لبنان، تحذف لجان الإستقطاب الطائفي المراقبة والساعية إلى تعليم ملائم لتلاميذها معظم المواضيع السياسية الحساسة من الكتب التعليمية. وحتى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا) ممنوعة من تعليم التاريخ الفلسطيني في لبنان أو حتى تاريخهم في فلسطين خشية أن يوقف الكونغرس الأميركي الذي يحكمه الصهاينة تمويله (الأونروا).
ومن شأن ذلك كله أن يشكل عائقا أمام تطوير منهج تعليمي موحّد لمادة التاريخ، فمعظم دروس التاريخ تقف عند العام 1946، أي بعد مرور ثلاث سنوات على استقلال لبنان من الحكم الفرنسي الإستعماري. ويتجنب معظم المدارس تعليم التاريخ اللبناني بغية عدم حدوث حزازيات مذهبية وسياسية.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية ببيروت "أوهانسّ غقطيشيان": "إننا ننشئ جيلا آخر من الطلاب الذين يعرّفون عن أنفسهم بانتمائهم فقط وليس بوطنهم... التاريخ هو الذي يوحد الجميع. ومن دونه لن نتّحد".
أما ساري هنافي، الأستاذ الفلسطيني الذي يدرّس مادة علم الإجتماع في الجامعة نفسها، فيؤكد على ضرورة إيجاد منهج موحّد لمادة التاريخ. ويضيف قائلا: "أعتقد، ومن منظور الهوية الإجتماعية، أنه من الضروري بمكان أن يتشارك اللبنانيون في بعض الروايات التي من شأنها تسليط الضوء على أوجه الإختلاف في ما بينهم. فرؤانا بشأن لبنان تتفاوت بشكل مطلق، وعلينا الإعتراف بذلك والإعتراف بما يقيدنا. ولا يجب أن يصوت مجلس الوزراء أو مجلس النواب على محتوى كتب التاريخ التعليمية... بل يجب أن يتم تحديد هذه الكتب والموافقة عليها من قبل لجنة من المؤرخين، وهذا كل شيء".
وقد أقحمت جميع الطوائف أنفسها في متابعة المحتوى التعليمي. وأحد المسؤولين في حزب الله الذين أحترمهم جدا هو النائب محمد فنيش، وزير العمل سابقا ووزير التنمية الادارية حاليا الذي رفع الأسبوع الماضي، وبالإشتراك مع وزارة التعليم العالي، دعوى حول استخدام الكتاب التعليمي الأميركي بعنوان "تاريخ العالم المعاصر" في مدرسة بيروت الدولية، وهي مدرسة خاصة معروفة محليا. وما ينغّص على الوزير فنيش وغيره هو أن الكتاب يذكر أن "حزب الله، وحركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي كلها منظمات إرهابية".
وقد تمت الموافقة سريعا على حل لذلك من قبل كل من وزارة التعليم العالي وإدارة المدرسة وحزب الله. فالنص المهين قد غطّي في جميع الكتب بملصقات من شأنها إرضاء جميع الأطراف مؤقتا.
ومن تداعيات هذا المأزق في التعليم، أنه ينظر إلى العام 1946، أي بعد مرور ثلاث سنوات على إنتهاء الإنتداب الفرنسي، على أنه نهاية الفترة التاريخية التي يتم تعليمها في المدارس اللبنانية، ولذلك لم تكن كارولين تعرف صدقا سبب مجيء الفلسطينيين إلى لبنان. والمقابل، وفي ما يتعلق بالنصف الثاني من القرن العشرين، فإن الشباب اللبناني على إطلاع واسع بما قد حدث خلال النكبة الفلسطينية والتداعيات التي نتجت عن ذلك.
وقد أصبحنا أنا وكارولين صديقين وأعطيتها بعض المقالات لعدد من العلماء حول النكبة لتقرأها، وقد لمست تحمّسها لهذا النوع من المواضيع. وبجرأة تشبه جرأتي إلى حد ما، وافقت كارولين على القيام ببحث حول النكبة وتداعياتها في لبنان وإطلاعي على ما ستأتي به. وقد أرادت كتابة ذلك كله من منظور طالبة لبنانية، على أن أحاول مساعدتها في منحها الثقة في الجامعة خلال تقديم أطروحتها، وربما مساعدتها في نشرها.
وبصراحة، لم أفكر كثيرا في تنسيق بحثنا لعدد من الأشهر، وكنت مسرورا جدا وفي غاية الدهشة عندما حدثتني كارولين في أحد الأيام قائلة إنها تريدني أن أقرأ مسودة بحثها.
وقد كانت مسودة جيدة فعلا.
تسأل كارولين قرّاءها: "لماذا أتى أكثر من 129 ألف فلسطيني إلى لبنان خلال العام 1948 في حين ذهب العدد نفسه إلى سوريا المجاورة؟"
ومن ثم أوردت ما قد عرفته بالإضافة إلى استنتاجاتها:
إن المصير الحالي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، الذين عاشوا لعقود من الزمن بظروف لاإنسانية وسيئة أكثر من أي جماعة من اللاجئين حول العالم، هو بالمقام الأول خطأ ومسؤولية أولئك الذين قد سرقوا أرضهم وقاموا بتطهيرهم عرقيا خلال نكبة عام 1948.
أضف إلى ذلك أن مسؤولية الحياة المدقعة للاجئين الفلسطينيين تقع على عاتق أولئك الذين رعوا المشروع الصهيوني الإستعماري بشكل فاضح خلال القرن التاسع عشر إذ ساهموا بالتسليح وغضوا أبصارهم عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، بالإضافة إلى المسؤولية الدولية لإنجاز قانون دولي يتضمن الكثير من قرارات مجلس الأمن في الأمم المتحدة كالقرار 242 و338 و194. ومع ذكر الولايات المتحدة وأوروبا، فإن المسؤولية تقع أيضا على عاتق المجتمع الدولي بمعظمه.
لقد تم إخراجهم بالقوة من 531 قرية و11 مدينة في فلسطين كجزء من مسلسل حملات التطهير العرقي الدقيق والمفصّل الذي قلّما شهدها العالم بعد "ثريّ ألمانيا الثالث". وبالفعل لقد استخدم الصهاينة المنظمون للنكبة لإخراج الشعب الفلسطيني عبر الإرهاب والتخويف طرقا مماثلة لتلك التي استخدمها الحكم النازي في ألمانيا.
وكتبت كارولين: "فعلى مرّ أكثر من ستة عقود، لا يزال المشروع الإستعماري الصهيوني المحتل لفلسطين يزعم أن الفلسطينيين قد تركوا مزارعهم ومنازلهم لأنهم أمروا بذلك من قبل الحكومات العربية بهدف إفساح الطريق للجيش العربي الضخم لإغراق اليهود في البحر خلال وقت قصير".
وتضيف كارولين: "وكان ذلك غير ذي معنى بالطبع، ذلك أن "الجيش" العربي المزعوم لم يكن يشكل أكثر من 10% قياسا بالقوات الصهيونية، ولم يكن ثمّة من مخطط له. فالقوات السورية نفذت من الذخيرة أما الأردنيون فانسحبوا من القتال بعد سقوط اللد والرملة".
ولكن، وبحسب كارولين، فإن : اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا قد كرّر تلك الأكذوبة وغيرها من الأكاذيب على مدى أكثر من نصف قرن". وقد كتبت كارولين أنه ومن وقت ليس ببعيد، سلّط كل من وليد الخالدي (1988)، والمؤرخ الصهيوني بيني موريس، والعالم الفلسطيني البارز سلمان أبو الستة الضوء على ذلك الخداع المتواصل.
إلا أنه وخلال إحدى الحملات الإنتخابية للرئاسة الأميركية في ولايات فلوريدا ونيوييورك وغيرها من الولايات، حلّت مجموعات غريبة في دائرة الضوء من دون أن تطعن بها أو تنقضها وسائل الإعلام الرئيسية، أو رعاة المناظرات، أو "متقصّو حقائق" المناظرات المزعومون.
وتشير خلاصة بحث كارولين إلى أسباب ترك الفلسطينيين منازلهم وأرضهم ولجوئهم إلى لبنان. وفي ما يقارب 90% من القرى التي يبلغ عددها 531، كان من شأن الهجمات العسكرية الصهيونية إخلاء سكان هذه القرى. وقد كان ذلك بمثابة طرد لهم على أيدي القوات اليهودية (15% تقريبا)، والهجوم العسكري المباشر من قبل العصابات والميليشيات الصهيونية (60%)، و18% نتيجة الهجوم المباشر عقب تدمير قرية مجاورة في بعض الأحيان على مرأى القرى المجاورة.
أما القرى الأخرى فأخليت غدرا خلال "حملات الهمس" التي كان يهمس فيها العملاء الصهاينة، مدّعين أنهم "جيران وأصدقاء يهود"، لسكان القرى الفلسطينية بأنه سيتم قصف قريتهم بشكل مرعب، وأن عليهم مغادرة القرية لأسبوع أو أكثر إلى أن تعود "الحال" إلى وضعها الطبيعي وذلك حفاظا على أرواحهم. أيضا تم تطهير 38 قرية عرقيا بسبب "الخوف من الهجوم اليهودي"، وتم إخلاء خمس قرى بناء على أوامر أحد المخاتير المحليين.
واللاجئون الفلسطينيون الذين أجبروا على المجيء إلى لبنان منذ أكثر من ستة عقود كانوا جميعهم جزءا من تسبب الصهاينة بإيجاد "أزمة لاجئين". فوجودهم كان نتيجة مباشرة لحرب الإبادة الجماعية التعصبية التي شنها عليهم الصهاينة المستعمرون الأوروبيون سابقا خلال الإنتداب البريطاني الذي أقرته عصبة الأمم وفي الفترة التي أعقبته. وقد تضمنت التكتيكات الصهيونية مشاريع عسكرية ونفسية كان من شأنها بث الحقد وإنتاج بعض التصديق للشعار الصهيوني الزائف القائل إن: "فلسطين أرض من دون شعب لشعب من دون أرض".
أما الأسطورة التي تعتبر أن الإسرائيليين كانوا قلّة وحاربوا بأسلحة بسيطة ضد الجيوش العربية المجهزة بشكل جيد فلم تكن حقيقية إلا في "الهجرة الخيالية" الهوليوودية. وقد تضاءل عدد الجيوش العربية المشاركة خلال المعركة.
وهنا، لم يبق من الجيوش خلال الجولات الأخيرة أي في تشرين الأول/ أوكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر إلا الجيشين الفلسطيني والمصري بحسب معلومات كارولين. ولقد ركز المشروع الصهيوني منذ أولى بداياته على ضرورة إنشاء جيش ضخم من شعب مؤلف من 650 ألف شخص تقريبا. وبذلك، انضوى أكثر من 100 ألف شخص، أو ما يقارب 16% من الشعب المستعمر تحت لواء الجيش.
إن كارولين مؤمنة جدا بدينها وقريتها وبلدها وجيلها، ولذلك فقد أخذت على نفسها دراسة ما يمنع التعليم الطائفي تدريسه في لبنان.
ولقد وعدت بإرسال بحثها إلى جميع النواب في البرلمان وبدعم الحملة المكثفة هنا في لبنان لمنح اللاجئين الفلسطينيين المطهرين عرقيا الحق في العمل وامتلاك المنازل.
فرنكلين لامب متطوع في مؤسسة صبرا وشاتيلا الخيرية وفي حملة الحقوق المدنية للفلسطينيين
المصدر: موقع قناة المنار