»ماتروشكا» مخيمات في عين الحلوة
بقلم: محمود سرحان
بعيداً عن مخيماتهم في سوريا،
قادهم القدر ليخطّوا بأنفسهم فصلاً جديداً من فصول التغريبة الفلسطينية؛ البعض منهم
كان يسكن في المخيم ذاته والحي ذاته لكنهم، لسخرية القدر، لم يلتقوا إلا هنا بالقرب
من خيمتهم التي نصبوها في العراء في مخيم عين الحلوة. مخيم جديد يولد في مخيم قديم،
لكنه مخيم «حقيقي» من خيم وترحال. مخيم داخل مخيم، تماماً كما في اللعبة الروسية «ماتروشكا«.
عين الحلوة | «أمي ولدتني في
خيمة ولا أريد أن أموت في خيمة»، بأسى كبير يقولها أبو أسامة، الهارب من جحيم الصراع
الدائر في سوريا، الذي ضرب قبل أشهر قليلة مخيمه «اليرموك«.
استفاق الرجل على وقع نكبة جديدة
سلبته كل ما كان يملكه هناك، المنزل والعمل، وعدداً من أفراد العائلة، وحتى الجيران
كذلك، ليجد نفسه في خيمة بعد مرور عشرات السنين على النزوح الأول.
وهنا، على قطعة من الأرض تدعى
«الجورة الحمرا» في مخيم عين الحلوة، كانت خيمته التي بناها نهاية شباط المنصرم. كانت
الخيمة الأولى، و«الحجر الأساس» في تدشين مخيم جديد في وسط مخيم قديم. يضيف أبو أسامة:
«الخيم العشر الأولى قدمتها لنا جمعية البدر الخيرية، ومن بعدها تكاثرت الخيم. أما
قطعة الأرض فقد سمح لنا أبو حسن (اللواء منير المقدح القيادي في حركة فتح) بإقامة الخيم
عليها بعد أن امتلأت «الروضة» التي قدمتها «الجمعية» بالنازحين أيضاً، وهو الوحيد من
بين المسؤولين الذي يتابع أوضاعنا ويشاركنا في جلساتنا في الخيام». ولكن أبو أسامة
لا يخفي في الوقت نفسه استياءه من بقية المسؤولين الفلسطينيين الذين أهملوا معاناتهم،
متسائلاً: «وين منظمة التحرير؟ وين الأونروا؟ وين الفصائل؟ ما بيعرف السفير بأحوالنا؟
أقل ما يمكن يعملو إنو يحل مشكلة الخيم والكرافانات التي رفض الحاجز اللبناني في أول
المخيم دخولها لعنّا».
يشاركه أبو موسى موقفه المستاء،
فيقول متهكّماً «واحد من المسؤولين بحركة الجهاد لما زارنا من كم يوم قال إنو أول مرة
بعرف إنكم هون!».
يوماً بعد يوم تتزايد أعداد
الوافدين إلى مخيم «الكرامة»، إما لأنهم قادمين تواًً من سوريا أو لأنهم أصبحوا عاجزين
عن تأمين أجرة المنزل التي قد تصل إلى 300 دولار، في ظل نسب البطالة الكبيرة بين صفوف
النازحين. كان المخيم الجديد ملاذهم الأخير، ولكن في الوقت ذاته أصبح تأمين خيمة لنصبها
مشكلة كبيرة ليس من السهل حلها، «وعدد من الخيم التي أدخلناها كانت فعلاً شبه تالفة،
يقول أبو موسى، وفيها فتحات في سقفها المهترئ تجعل القاطنين فيها تحت رحمة السماء حين
تمطر، فتدخل المياه إلى الخيمة إما عبر السقف أو عبر الأرض الترابية كحال كل المخيم».
في إحدى هذه الخيم المهترئة
تقول أم هادي: «زوجي استطاع تأمين هذه الخيمة من عدة أشخاص؛ السقف من جهة والأعمدة
الخشبية من جهة والجدران القماشية من جهة ثالثة». وتضيف وهي تتحاشى النظر إلي، ربما
خجلاً، «اللجنة الأولى (التابعة لمنظمة التحرير) أعطتنا 50 دولار من زمان ومرة وحدة،
والتانية (قوى التحالف الفلسطيني) ما إلهم علاقة»، وتتابع «الجميع مقصرون». أما جارتها
أم محمد فتقول بغضب «أعطونا بس كم فرشة، و الفراش ما بيتاكل!»، في إشارة إلى ندرة المساعدات
الغذائية المقدمة لهم وعدم قدرتهم على العمل لتأمين احتياجاتهم بأنفسهم. رغم هذه الأوضاع
الصعبة التي يعانيها النازحون هنا، هنالك من لم يجد سبيلاً حتى «لرفاهية» المكوث في
خيمة! ففي مكان قصي من بقعة الأرض التي أقيمت عليها الخيام، وبالقرب من الجدار الذي
يفصلها عن المنطقة المحيطة، بنى أبو محمد، القادم من مخيم اليرموك، «براكية» من الكرتون
وقطع النايلون، وهي عبارة عن غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 3×1.5 متر مربع مخصصة لعائلته
المكونة من سبعة أفراد، اضطر إلى بنائها ممّا توافر له من المواد بعد أن فشل في تأمين
خيمة تؤويه هو وعائلته، يقول إنها «عندما تمطر تدخل علينا المياه من كل الجهات؛ من
فوق و من تحت، ونبدأ بتوزيع الأواني عند كل ثقب في السقف (المصنوع من النايلون)، وإذا
اشتد المطر أهرب أنا وعائلتي إلى أحد الأماكن المسقوفة بالأسمنت القريبة من هنا، ريثما
يتوقف».
لكن، وكما يقال في سوريا «إذا
خليت.. بليت»، انتهز أبو محمد الفرصة وهو يروي قصته لذكر صديقه أبو الفدا من سكان عين
الحلوة، الذي قدم له المساعدة لدى وصوله ليلاً من سوريا، وآواه في منزله لعدة أيام،
رغم أنه قيد الترميم، وهو ما زال يزوره ويساعده بعد خروجه من منزله إلى «الكرامة».
وعن أوضاعه المعيشية يقول «استدنت
مبلغاً من المال خلال فترة إقامتي البسيطة هنا لأعيل عائلتي، وعندما حصلت على المساعدة
المالية من الأونروا قمت بسداد الدين ولم أحصل من اللجان سوى على بعض الفرش فقط». فجأة
يصمت أبو محمد ويرفض متابعة الحديث، كما لو كان في مجرد سرد أوضاعه ذل ما بعده ذل...
وفي الحقيقة، يعيش فلسطينيو
سوريا أوضاعاً معقدة نتيجة خسارتهم كل ما كانوا يملكونه؛ المنزل والعمل وخاصة «الصفة
القانونية الحاضنة لهم في سوريا» والتي خسروها أيضاً بقدومهم إلى لبنان.
فقد كان كل شيء لهم متاحاً في
سوريا ولم يضطروا إلى الاتكال على أحد؛ لا الفصائل ولا اللجان الشعبية التي لم يعرفوها
سابقاً ولكنهم أصبحوا الآن كورقة الخريف التي تتقاذفها الرياح؛ الفصائل والأونروا من
جهة، والتمييز في التعامل بين النازح الفلسطيني والسوري من قبل الجهات اللبنانية.
على بعد خطوات قليلة من «براكيّة»
أبو محمد وقف أحد الشبان النازحين محتجّاً على الإهمال ثم صاح غاضباً: «وك.. آخ.. لو
كان أبو عمار عايش ما تركنا هيك!».
________________________________________
خلال جولة قام بها منير المقدح
في الكرامة، أكد أن الأونروا وافقت على تأهيل ثماني غرف في مجمع الشيخ زايد «الروضة»
وأربعاً أخرى على حساب أحد المتبرعين، كما أن العمل جار لتجهيز عدد من الحمامات لخدمة
سكان الخيم والحصول على موافقة من الجهات المعنية لصبّ أرضية من الأسمنت درءاًً لمشاكل
تسرب مياه الأمطار والحشرات الضارة. وكانت جمعية البدر هي الوحيدة في عين الحلوة التي
قدمت مرافقها لاستقبال النازحين الفلسطينيين؛ الروضة وفيها70 عائلة، والبيت الأبيض
وفيه 18 عائلة، وأخيراً أرض «الكرامة» وفيها 21 خيمة تحتوي 27عائلة. وكان المقدح قد
هدّد في وقت سابق بفتح مدرسة تابعة للأونروا في حال لم تستجب الأخيرة لطلبه تأمين أماكن
إيواء ورعاية كاملة لهؤلاء النازحين، علماً بأن أعدادهم تتزايد يومياً.
المصدر: الأخبار، 29-4-2013