القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 23 تشرين الثاني 2024

متى تكتمل عملية التوثيق المنهجية لفلسطين وشعبها؟


نبيل السهلي

صدق من قال "كل شيء تجاوز القرطاس ضاع". على الرغم من أهمية التوثيق للمراحل التي مرت خلالها القضية الفلسطينية بتفاصيلها المختلفة؛ يلاحظ المتابع بأن العرب ومن ضمنهم الفلسطينيون، لم يؤرخوا لحرب عام 1948 بشكل يرقى إلى حجم الكارثة التي حلت بالفلسطينيين وهويتهم الوطنية بعد النكبة، بيد أن ذلك لم يمنع في ذات الوقت من ظهور بعض الكتابات العربية عن الحرب، لكنها بقيت في حدودها الدنيا، بعيدة عن العمل البحثي العلمي الجاد من جهة، وعدم القدرة على توصيل الحقيقة إلى خارج الحدود من جهة أخرى.

التوثيق للنكبة بشكل ممنهج

سادت الرواية الإسرائيلية المزيفة حول إنشاء إسرائيل وطرد العرب الفلسطينيين من وطنهم فلسطين، على مستوى القرار والدول الغربية ومنظمات المجتمع المدني، وإن بشكل أقل، وقد دفعت بهذا الاتجاه قدرة إسرائيل وتحالفاتها مع الدول الاستعمارية، التي مكنتها من الحفاظ على قوتها المحلية، السياسية والعسكرية والدبلوماسية والإعلامية، وعززت ذلك المؤسسات الصهيونية المختلفة، خاصة الوكالة اليهودية ورأس المال اليهودي المنظم لخدمة الرواية والدعاية الإسرائيلية منذ قيام إسرائيل في‏ عام 1948.‏

ولهذا باتت الضرورة بعد مرور اثنين وسبعين عاما على نكبة الفلسطينيين الكبرى (1948 ـ 2020)، تسجيل ذاكرة أهل النكبة لتاريخ أهم مرحلة من مراحل القضية الفلسطينية، ويتطلب ذلك تأسيس عمل مؤسسي فلسطيني علمي وممنهج وجامع، يتم من خلاله البدء في تسجيل ذاكرة كبار السن من اللاجئين. وتتبوأ عملية تسجيل ذاكرة اللاجئين الفلسطينيين أهمية خاصة، لأسباب عديدة، في المقدمة منها، نسبة الذين سيتم استطلاع رأيهم وتسجيل ذاكرتهم لا تتعدى (2) في المائة من مجموع اللاجئين الفلسطينيين، وإن تأجيل عملية التسجيل عبر عمل مؤسسي وليس فرديا، كما هو حاصل حتى اللحظة، سيجعلنا نعتمد في كتابة تاريخنا على ما يؤرخ له الإسرائيليون، ‏حيث سادت حتى اللحظة الرواية الإسرائيلية والغربية لنكبة 1948 وتداعياتها، وكذلك لعمليات طرد العرب والسيطرة على أرضهم وتفاصيل المجازر المرتكبة في المدن والقرى الفلسطينية.

وكباحث شارك منذ عام 1982 وحتى عام 2007، في المسوح الميدانية لمكتب الإحصاء الفلسطيني في مناطق وجود اللاجئين المختلفة، تلمست أهمية تسجيل الذاكرة والتأكيد على ذلك من قبل شرائح فلسطينية عديدة، خاصة عند الحديث عن النكبة والقرية والأهل قبل عام 1948، حيث يرى الكثير من الباحثين أن الذاكرة ستشطب بعد سنوات بفعل التقدم في السن، وتراجع نسبة من هم قادرون على تسجيل ذاكرتهم من اللاجئين الفلسطينيين.‏ ووفق رأي شخصي يمكن القول إن كافة الأعمال التي تمت لتسجيل ذاكرة اللاجئين في كافة أماكن وجودهم حتى العام الحالي 20209، إنما هي بمثابة تجربة قبلية، خاصة في ظل عدم بروز مؤسسة متكاملة جامعة للقيام بذلك عبر تجميع الجهود وتوحيد الأهداف والرؤى.

لقد مر على نكبة الفلسطينيين الكبرى اثنان وسبعون عاماً، حيث تم بقوة البطش والمجازر دفع غالبية الفلسطينيين خارج أرضهم (61 %) من إجمالي مجموع الشعب الفلسطيني في الخامس عشر من آيار/ مايو 1948، ليصبحوا الآن سبعة ملايين لاجئ في المنافي القريبة في أرضهم التي نجت من الاحتلال وخارجها، الأمر الذي أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الفلسطيني والوحدة الاجتماعية.

ومنذ الخامس عشر من أيار (مايو) عام 1948، لم يتم التأريخ للنكبة وتداعياتها وآثارها المختلفة بشكل جيد بل تم الاعتماد إلى حد كبير على الرواية الإسرائيلية التي كان لها حضورها وبالتالي غياب رواية الطرف الضحية، نقصد اللاجئين الذين احتلت أرضهم وطردوا منها وأقيمت عليها دولة الاحتلال إسرائيل في ظروف دولية وإقليمية معقدة.

وقد تكون ورشات العمل التي دعت إليها جهات فلسطينية جامعية وبحثية وخاصة في الداخل الفلسطيني والشتات، مقدمات لانطلاقة حقيقية لعمل مؤسسي جاد لتسجيل الذاكرة الفلسطينية، وبروز حقيقي لرواية فلسطينية متكاملة حول النكبة وتداعياتها. وقد دلت النتائج على نية ثلة من الشعب الفلسطيني ومؤسساته للانطلاق نحو تسجيل الحقيقة وفق عمل مؤسسي جاد يرقى إلى حجم الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني نتيجة ارتكاب أفظع المجازر المرتكبة بحقه، ناهيك عن التحدي مع الرواية الإسرائيلية الخادعة للتاريخ والمزيفة له في نفس الوقت، ويمكن إجمال أهم نتائج وتوصيات الندوات وورشات العمل بعد اتفاقات أوسلو والتي كانت تحت شعار الرواية الشفوية لكبار السن من الفلسطينيين حول النكبة بما يلي:

أولاً: ضرورة تبادل الخبرات، والاستفادة من التجارب الحية في المناطق التي تجاوزت عقدة المؤسسة والتمويل والتعاطي الأكاديمي لمشاريع تسجيل الذاكرة الفلسطينية.

ثانياً: وجود فجوات كبيرة في المصطلحات نتيجة التفاوت الكبير في التحصيل العلمي، بيد أن ذلك لم يمنع من ضرورة وضع مصطلحات جامعة في شبكة التاريخ الشفوي، وكل شهادة تم تسجيلها بغض النظر عن الباحث إنما تخدم أسئلة مطروحة في مجال السياسة والاقتصاد والتاريخ الفلسطيني، ناهيك عن كونها جزءاً من رواية فلسطينية في مواجهة الروايات والسرديات الصهيونية المدروسة لطمس حقائق التاريخ والجغرافيا في فلسطين وتشويهها.

ماذا عن المجازر الصهيونية؟

أكد المؤرخون في إسرائيل وعلى رأسهم المؤرخ بني موريس بأن المشاريع لعمليات الترحيل واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم قد تم الإعداد لها منذ زمن بعيد ولم تكن وليدة صدفة فرضتها مجريات الصراع، وكان العنوان الأبرز تنفيذ المجازر باعتبارها من أهم الوسائل التي يمكن استخدامها من قبل العصابات الصهيونية لإثارة الرعب بين السكان العرب وترويعهم وبالتالي حملهم على الرحيل، وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن في مذكراته بأن المنظمات الصهيونية العسكرية قد قامت بطرد العرب وهي التي نظمت عملية القتل والطرد.

وفي هذا السياق تشير الدراسات إلى أن عدد المجازر التي أمكن تسجيلها وصل إلى 34 مجزرة منها 24 في منطقة الجليل وخمس مجازر في وسط فلسطين وخمس مجازر في منطقة الجنوب وثمة سبع عشرة مجزرة نفذت في ظل وجود القوات البريطانية قبل عام 1948 ودون تدخل يذكر منها وسبع عشرة بعد إنهاء الانتداب البريطاني.

ومن أشهر المجازر مجزرة دير ياسين ومجزرة الطنطورة وقرية بلد الشيخ والصفصاف وعيلوط وعرب المواسي لكن أفظع المجازر كانت مجزرة الدوايمة.. ويمكن الكشف عن عشرات من المجازر الصهيونية في حال الوصول إلى رواة من القرى التي ارتكبت بحقها مجازر، فهناك قرية طيرة حيفا تم حرق قسم من أهلها الأبرياء على البيادر (آل حجير) على يد العصابات الصهيونية، وهناك شهود عيان أحياء على المجزرة ولم تتم مقابلتهم ويتواجدون بشكل رئيس في مخيم اليرموك وغيرها من مخيمات الفلسطينيين في سوريا.

ومن المجازر الإسرائيلية الأخرى مجزرة قرية الطنطورة في قضاء حيفا، حيث قام الإسرائيلي تيدي كاتس بالحصول على شهادة ماجستير من جامعة حيفا على بحثه الذي وصف فيه المجزرة المذكورة وأحصى عدد الضحايا في القرية المذكورة في صيف عام 1948 وتعتبر مجزرة دير ياسين من أفظع المجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين وتقع القرية على أحد التلال التي تطل على واد بالقرب من مدينة القدس وكانت تعتبر من الأماكن الرئيسية لكونها تربط القدس بمدن الساحل يافا وعكا، ولذلك جعلتها أكثر عرضة للاعتداء من قبل الصهاينة ولكونها أحد قلاع القدس داهمت عصابات شتيرن والأرغون والهاجاناه الصهيونية قرية دير ياسين في يوم 9/4/1948 الساعة الثانية فجرا.

وقال شهود عيان إن إرهابيي العصابات الصهيونية شرعوا بقتل كل من وقع في مرمى أسلحتهم وبعد ذلك أخذ الإرهابيون بإلقاء القنابل داخل منازل القرية لتدميرها على من فيها، حيث كانت الأوامر الصادرة لهم تقضي بتدمير كل بيوت القرية العربية في الوقت ذاته سار خلف رجال المتفجرات إرهابيو الأرغون وشتيرن فقتلوا كل من بقي حيا من المواطنين العرب داخل القرية، فقد أطلقت عليهم النيران لإعدامهم أمام الجدران واتضح بعد وصول طواقم الإنقاذ أن الإرهابيين الصهاينة قتلوا 360 فلسطينياً معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال ودمرت القرية ولم يبق منها سوى أطلال توحي بأنه كان يوجد هناك قرية تسمى دير ياسين تترامى على أطراف الوادي.

ولم تتوقف المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني فبعد انطلاقة الانتفاضة الثانية بعامين ارتكب الجيش الإسرائيلي مجزرة مروعة في مخيم جنين في بداية نيسان (أبريل) 2002 ذهب ضحيتها (500) شهيد فلسطيني وهجر أكثر من ألف فلسطيني من سكان المخيم، ولم تتوقف المجازر الصهيونية تجاه الشعب الفلسطيني حتى اللحظة داخل فلسطين التاريخية، حيث كان من أبشع صورها في نهاية ايار / مايو الماضي، حين قتل الجيش الإسرائيلي الشاب الفلسطيني إياد الحلاق، المصاب بمرض التوحد قرب باب الأسباط في القدس وهو ذاهب إلى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة.

إضافة إلى المجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، برزت الحرب النفسية الصهيونية والدعاية والإعلام كوسيلة مكملة ساعدت في عمليات إفراغ القرى والمدن الفلسطينية من أهلها العرب، حيث عمدت العصابات الصهيونية التي ارتكبت المجازر إلى ترك باب للخروج من إحدى جهات القرية حتى يتسنى للناجين نشر الروايات حول تلك المجازر وحمل أهل القرى المجاورة للرحيل عند سماع ما حدث من ترويع للسكان العزل في القرى الأخرى وهذا ما حصل فعلاً في المدن والأقضية الفلسطينية في الساحل والقدس والجليل والمثلث الأمر الذي أدى إلى تهجير 75 ألف فلسطيني في عام 1948 ونحو 460 ألف فلسطيني من الضفة والقطاع في عام 1967.‏ ليصبح ضحية الترانسفير الصهيوني نحو (70) في المائة من إجمالي مجموع الشعب الفلسطيني.

يلحظ المتابع بأن المجازر هي عقيدة إسرائيلية في الفكر والممارسة. ولهذا باتت الضرورة تحتم إنشاء مركز بحث فلسطيني وآخر تابع لمؤسسات الجامعة العربية يضم متخصصين بجمع المعلومات حول المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، وقبل ذلك العصابات الصهيونية. وقد تكون البداية جمع أدلة ووثائق عن الذين قاموا بالمجازر أو قادتهم لمحاكمتهم فيما بعد في المحاكم الدولية ذات الصلة. ويجب أن يساهم في عملية البحث والتحليل قانونيون وعلماء اجتماع وعلماء نفس فلسطينيون ومن كافة الدول العربية، إضافة إلى الاستعانة بخبراء أجانب مناصرين للقضية الفلسطينية وهم كثر.

وبعد ذلك تتم تهيئة الظروف المواتية لنشر ما تم التوصل إليه في البحوث في وسائل الإعلام العربية وخاصة عبر ندوات في الفضائيات بحيث تكون هناك ترجمة فورية بلغات عديدة، حيث لم ينشر إلا القليل عن المجازر الإسرائيلية المرتكبة بحق الأبرياء على امتداد الوطن العربي، وكذلك هي الحال بالنسبة للمجازر التي دفعت غالبية الفلسطينيين خارج أرضهم في عام 1948 وبعده.‏ وبذلك تكون الملفات جاهزة لرفع دعاوي إلى المنظمات الدولية ذات الصلة.

خاتمة

يبقى القول بأن ثمة ضرورة من أجل تأسيس شبكة تاريخ شفوي فلسطينية موحدة للداخل الفلسطيني والشتات بعيداً عن الحساسيات الثانوية. وهذا يتطلب الاستمرار في بناء المؤسسة الجامعة من خلال حصر أسماء وعناوين والسير الذاتية لكافة الباحثين والمؤسسات التي عملت في موضوع تسجيل الذاكرة الشفوية الفلسطينية بغية صياغة رواية فلسطينية حقيقية لمواجهة زيف الرواية الإسرائيلية للنكبة، وبداية الألف ميل تبدأ بخطوة علمية وجادة.

*باحث فلسطيني مقيم بهولندا

المصدر: عربي 21