القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

مجزرة الطنطورة في الوعي الجمعي لأبنائها

مجزرة الطنطورة في الوعي الجمعي لأبنائها

شروق عابد

65 عاماً وملايين المهجرين يتأرجحون بين ضلوع الشتات، وتسرق أعمارهم مسافات الوقت، وما زال بين النبضة والنبضة وطـن.

عَبثَت بي أشواك التاريخ، فنبشنا معاً بين ثنايا أرواح تتشبث بجرحٍ متورم، تَنغَرِسُ بين طَياتهِ خيوط زمن طويلةٍ مرخية، تَنكأ بهِ عَبَر لحظاتِها فَلا هي حَبَست نَزفَ الجرح ولا هو أفلتَ مِن وجعها العنيد.

مِن عُمق آهات ملايين المهجرين المتناثرين بين حنايا المخيمات, وجدتُ الحاج فوزي محمود أحمد طنجي «أبو خالد» ابن قرية الطنطورة القابع في مخيم طولكرم الملاصق لمدينة طولكرم الفلسطينية.

يَقُص مَشاهِد عَاصرها من مجزرة قرية الطنطورة في 14/06/1948 متمنياً الموت مع من ماتوا على أن تلاحقه صور ما حدث حتى هذه اللحظات.

يقول أبو خالد اقتادنا الجنود أنا وأصدقائي وأبناء عائلتي إلى مقبرة القرية، ووضعونا في صفوف، لن أنسى أبدًا وجوههم فقد ظننتهم ملائكة الموت، وقفت حيث أُمِرنا وكنت على يقين أن هذه هي لحظاتي الأخيرة.

انتفضَت دموعه كالثورة، وأكمل حديثه بقلبٍ يعتصره ألم الفقد والعَبَرات تعتلي محياه، لقد قتلوا أبناء عائلتي وأصدقائي أمام عيني، أَمرَ القائدُ جنودَه أن يأخذوا عشرةً منا، فاختاروا عشرة وجرّوهم إلى جانب الصبرة وأطلقوا عليهم الرصاصَ بدمٍ بارد، ثم عادوا وأخذوا عشرة آخرين ليدفنوا أحباءهم بأيديهم وينالوا نصيبهم من رصاص العصابات الهمجية، وهكذا عشرة بعد عشرة، ومرةً تِلو أخرى أردوهم قتلى دون رحمةٍ أو شفقة.

ولم يكن أحمد صالح زراع «أبو سهيل» بعيداً عن الموقعة الدامية, ويشهد أن دماء شهداء الطنطورة احتضنت صَرخات حرائرها, روى قصة «رسمية الشما» والألم يسكن جفونه، يقول: «بعد أن سيطرت قوات الاحتلال على القرية جمعونا على شاطئ البحر، وكان النساء والأطفال على جانب والرجال على جانب آخر، وكانوا يرسلون مجموعات من الشباب إلى المقبرة لقتلهم, وفي تلك الأثناء رأيت أربعةً من الجنود يسحبون من بين النساء «رسمية» -ابنة الستة عشر ربيعاً- حَاول عمها أن يَمنعهم فدفعوه جانباً، أصَرّ العم أن يدافع عن شرفه فأطلقوا عليه رصاصة اخترقت رأسه وأردوه شهيداً على مرأى عيني، أما رسمية فبعد أن هتكوا عرضها خرجت إلى الضفة الغربية ولم تتزوج قط.

حكايات مفزعة عن نساء عاشوا أحداث المجزرة احتفظت ذاكرة أبو سعيد (رزق عشماوي) بها فأخبرنا عن بنادق وجهت لنساء الطنطورة فقُتِلَ مِنهُنّ من قتل وأُلقيت جثثهم في البئر، أما البئر الآخر فأُلقيت به جثث شباب القرية.

ويَذكُر أبو سعيد تلك المرأة التي رَجت الجنود أن يسمحوا لها بإبعاد جثة زوجها عن الشمس فَهَمَّ أحدهم بقتلها إلا أنهم وافقوا على ابعاد الجثة بعد ذلك.

روى أيضاً ما حَدث مع أمٍ غَطّت على أولادها -خوفاً أن يطولهم رصاص البنادق- إلا أن طفلها نادى عليها فسَمِعَهُ الجنود وقتلوه، فأُصيبت الأم بالشلل من شدة الخوف، ويقول أبو سعيد رَجونا الجنود أن ينقلوها بالسيارة فكان ردهم لا حاجةَ لذلك نقتلها فترتاحوا.

كُل ذلك وأكثر ألقَى بمن تبقى من أبناء الطنطورة بين أنيابِ الشتات في مخيمات سوريا, والضفة الغربية, والأردن.

هي بِضعة مَشاهدَ من بين أكوام ذكرياتٍ عالقة لا تُنسى ولن يمحوها الزمن, شهِدها أبناءُ الطنطورة في حلقاتِ مسلسلٍ دموي من واقعِ النكبة, تَرجمَ صُورَهُ من عَاصرَ الحَدث, فَغَدت حقيقةً تَراها عيونٌ تشتاقُ لتتكحل بأرض الأجداد, وصارَ صدى صوتهِ لحناً للثأر والعودة يعزفهُ كُل فلسطينيٍ في الشتات.